منبر العراق الحر :
تُحاول أنْ تبعدَه عنْ بالها بشتّى الوسائل لا تُفلح، تُشغلُ ذاتها بقراءة جريدة و مرّة تُشعل التلفاز، تفتح باب بيتها تمشي شاردة دون أنْ تدرك مَنْ يمرّ قربها مِن المارّة إلاّ حين يتهيأ لها أنّها ستلتقي معه فتتفحص الوجوه العابرة باهتمام ..
بينما تُفكّر فيه تصادفه على الطريق، تقف متوترة فتقع محفظة يدها على الأرض مِنْ شدّة الارتباك، تنحني لتلتقطها يسبقها بحملها و يبدأ بمسح الغبار عنها بقميصه الأزرق،
هو الآخر تقع مِن يده علبة سردين كان يحملها، تشعرُ بالخجل، تطرقُ في عين الأرض هُنيهة ثمّ ترفع رأسها و تدخل عينيه فيصدمها جمودهما كأنّهما مِن زجاج لا ماء فيهما و لا بريق.
– الوقت متأخر، هلْ أراكِ غداً قبل الغروب في حديقة الزاهرة؟
قبل أنْ تجيب يتركها و يمشي دون نظرة إلى صفحة وجهها المُستغرب.
تتقلّب على فراش مُقلق:
– ماذا سألبس في الغد؟ لا أعرف الألوان التي يُحبّها، دائماً أراه في زيّه العسكريّ، أخشى أنْ أختار لوناً لا يحبّه و يكون بيننا فوارق.
تُريده أنْ يرى قواسمَ مُشتركة ليحصل انسجام يُشجعه على الارتباط، بعد معاناة زواجها الفاشل مِن شدّة المتناقضات.
تُغير محطة تفكيرها، تعود بذاكرتها إلى قميص أزرق تلوث بغبار المحفظة، تفقش بأصابعها:
– سأضع الشال البحري.
هو ذا الأزرق لون السماء، الإنسان لا يرتدي شيئاً يكرهه، ما زالتْ تتقلّب، تدور فوق سرير يائس:
– أنا التي كنتُ أحسبني كرهت الدُنيا و ما عليها بعد طلاقي، ما الذي يحصل معي؟ تغوص في بحر هواها لتستدرج ملامحه، لكن إلى الآن لا تعرف كُنه شعوره نحوها، تجلس على طرف السرير: – يا إلهي ما الذي يشدّني إليه بهذا الإلحاح؟
تتخيل حضوره المُسيطر على أغلب وقتها المهدور بعيداً عنه: – إلى متى سأبقى رهينة وساوس؟ غداً يذوب الثلج.
المصيبة لا ثلج و لا مرج و لا كوّة تكشف مراده الخفي، تفصح عن قصده المدفون، عَرِفَته منذ مدّة طويلة، على بُعد كانت ترى في طلّته مُروجاً طريّة و زهوراً نديّة، عن قرب لمْ تلمس شيئاً، كان أشبه بآلة تتحرّك دون روح.
– و أنا الثانيّة ما الذي لجم لساني أمامه؟ كان لدي الكثير لأقوله، ما الذي حوّلني في لحظة إلى دمية مِن قماش؟
أنثى كغيرها تخشى سوء الظنّ إن بدأت بكشف ستائر عواطفها المتوارية، ماذا لو تقدمت امرأة منْ رجُل تُحبّه بأريحيّة تقول:
– هلْ تقبلني زوجة؟
يعودُ موج مُقلق ..
يسيطر وجهه المُتمركز داخل مُخيلتها كنواة حبّة تمر، تتخيّل لحظة الغروب الموعود، كيف سيختفي قرص الشمس و هُما معاً على مقعد واحد بركن معزول تحت أشجار مُتسترة، كيف سيغيب الضوء متعاوناً ليفسح المجال لقدوم وهج قمر و نجوم ..
– اختارَ وقت الأصيل الذي أحبّ، يا إلهي هذا قاسم مشترك ..
يطولُ عراك هذه الليلة مع النوم المتمنّع أكثر من بقيّة الأيّام، لكنّها تغفو مِن التعب، لتنهض ممتعضة، لمْ تره في منامها كالعادة ..
– عقارب الساعة لا تسير، يا لهذا اليوم الطويل كأنّه سلحفاة هرمة ..
تصعد سطوح بيتها كي ترى السماء مُستعجلة أقدام الشمس بالمسير ليأتي الغروب المُنتظر، لكن شمس هذا اليوم تتنقل بغنج على خطى عقارب غافلة، متجاهلة لظى العشق و العشاق ..
– تُرى هلْ أحبّني يوماً؟ البارحة وقف بارداً كقطعة ثلج حتى نظرته مُختلفة ..
تنزل على الدرج و ما كانت إلاّ درجة واحدة لتتلقفها عتبة أرض دارها صارخة ..
تصيح دون أنْ يسمعها أحد، البيت العربي الواسع الذي تركه والداها لا يعرف سوى سحنتها السمراء و قامتها الطويلة النحيلة، اختارت سجنها بإرادة مُحبطة منذ قررت اعتزال الناس، أخذتْ إجازة طويلة مِن مدرسة أطفال الروضة التي كانت تُدرّس فيها.
تزحف نحو الهاتف، تئنّ موجوعة، بعد عرق وجهد تتصل بصديقتها و على الرغم من وجعها الشديد، ترفض الذهاب إلى المستشفى، تخجل الإفصاح أمام زوج صديقتها، خاصّة هو رفيق زوجها السابق ..
– عند الغروب صدقوني سأذهب معكما إلى آخر الدنيا.
لحظة الغروب قُدِرَت لها في مستشفى المواساة القريبة من دارها ..
طبيب يلفّ قدمها بالشاش و الجبس، تبكي دون توقف، الألم الأكبر كسر الحلم الذي لا يستطيع طبيب العظميّة جبره ..
بعد مدّة تتعافى قدمها و يزداد كسر قلبها بالتقرّح والالتهاب:
– لكن أين اختفى؟ رُبّما ظنّ أنّني لا أرغب في رؤيته، لو أنّه يُحبّني ما تركني بهذه السهولة.
تسري أيّامها مُتشابهة دون طعم يجعلها تفرد ملامح تقلّصت بفعل يأس لعين ..
– عندما أراه سأركض نحوه كطفلة مِن الروضة، سأصرخ بأعلى صوتي: – أحبّك يا أنت، لن أكترث لكلام الناس لأنهم لا يشعرون بعذاباتي و مدى مُعاناتي ..
حين رأيته ذلك اليوم كان يحمل بيده علبة سردين، أكره رائحة زيت السمك، لكن لا لن أسمح لشيء يُبعدني عنه، سأصنع قواسم مُشتركة بيننا بيديّ هاتين ..
ترفع أكمامها كأنّها تستعد لفعل:- بيديّ سأغيّر دفة القدر.
تجد روحها تحملها دون شعور، تفتح الباب و تخرج مُنوّمة: – أعطني علبة سردين منْ فضلك.
تتربع على الأرض، تأكل برغبة غريبة، تتخيّل لحظة التقت معه على طريق المطار، كيف مسح الغبار بقميصه بفوضويّة، فتبتسم لتنبسط عقدة احتلّت جبينها فترة طويلة ..
ترى غروب شمس لمْ يحصل، ترقب لون جدائل نحاسيّة تودع رؤوس أغصان حديقة الزاهرة، تشعر بوجوده قربها، بطعم يديه و هما تلامسان عطش يديها، بدفء أنفاسه و هي تمتزج مع الهواء، تشمّ رائحة عطر مُثير يحرّك شهوة طاغية تسيطر على كلّ مسامات جسدها، يمرّ شريط عذب في قفص رأسها، يحملها إلى عالم بعيد فوق طيّات غيوم ورديّة و زيت السمك يسيل مُرتاحاً على أصابعها، يملأ يديها و يكاد يسير على البلاط ..
رنين الهاتف الأرضي يزعجها: كيف سأحمل السماعة؟
ترفعها بطرف منديل، صوته يأتيها غاضباً بنزق: – لماذا تتهربين؟ أنا أحبّك يا امرأة ألا تشعرين؟ لا تعرفين كمْ تعذبت كي أحصل على رقمك، كنت أودّ وداعك لكنك للأسف لمْ تأتِ ذلك اليوم ..
يسكت ثمّ يتابع بلين:
– أنا ضابط كما تعلمين لا أملك ذاتي أنا ملك الوطن، نقلوني مِن دمشق إذا كُتِب لي العمر سأعود مِن أجلك، فقط ادعي لي حبيبة قلبي.
تغلق خط الهاتف تخمّن بسذاجة:- أتى على رائحة السردين؟ تُرى هل هو جائع؟ تضحك بصوت مسموع و هي تمرّغ وجهها و ثيابها بما بقي على راحتيها مِن زيت السمك ..
تدور راقصة فيوقفها وجع قدمها فتجلس و تبدأ عدّ ثواني الانتظار بنزق.
.. هُدى الجلاّب ..