منبر العراق الحر :
ماهو الثمن الذي يدفعه من يقول الحقيقة في مجتمع يفضل الأوهام ؟ يجيب على ذلك الثائر والفيلسوف نيتشه ناصحاً: لا تقع ضحية المثالية المفرطة وتعتقد أن قول الحقيقة سوف يقربك من الناس ! فالناس تحب وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام ، منذ القدم والناس لا تعاقب إلا من يقول الحقيقة .
إن المجتمع كما يرى نيتشه، يكافئ من يبيعه الأوهام ويثني على من يطمس الحقائق القاسية. ومنذ القدم عوقب من قال الحقيقة، لأنه يكشف النقاب عن ضعفنا ويعري زيفنا، فهو المرآة التي تعكس بشاعة قبحنا الداخلي. فالحقيقة صادمة، والواقع مؤلم، لذا يلجأ الإنسان إلى أوهامه وأحلامه، يغرق في بحر من الخيالات التي تبعده عن مواجهة ذاته. وهذا ما يجعلنا نتساءل: لماذا نخشى الحقيقة؟ ولماذا يفضل الناس الأوهام؟
لعل الإجابة تكمن في كلمات الناسك العدمي سوران: حيث يقول “كلما ازداد الوعي لدى الإنسان…ازدادت خياراته، وإذا قلت خياراته قل وعيه ” فالحقيقة تكشف عن الأبعاد المتعددة للواقع، وتفتح أمام الإنسان أبواباً من الخيارات التي لم يكن يعي بوجودها، وهي أبواب مؤلمة لأنها تفرض عليه مسؤولية اتخاذ القرار. لذلك قد ينظر إلى الحقيقة على أنها لعنة من السماء، تثقل الروح وتعمق الشعور بالوحدة. وعندما تضيق الخيارات، تنكمش الروح وتستكين للأوهام المريحة.
ثم يأتي دوستويفسكي ليغلق نقاش هذه الحلقة الفلسفية قائلاً: “يا سادتي، إن الإنسان يحب أن يخدع نفسه بنفسه، ويستمتع بذلك كثيراً” فالخداع الذاتي هو ملاذ الإنسان الأخير، وهو الرغبة في الفرار من عبء الحقيقة. الإنسان يخدع نفسه طوعاً، لأنه يجد في ذلك راحة من الأسئلة التي لا إجابة لها، ومن الألم الذي لا دواء له. فالأوهام تصبح كالأفيون، تغيب الوعي وتسكن الوجع، وهي الراحة المنشودة في عالم لا يرحم.
وفي النهاية يبقى السؤال: هل يمكن للإنسان أن يعيش الحقيقة دون أن يُدمر؟ هل يمكننا أن نتحمل قسوة الواقع ونستمر في البقاء؟ ربما! وربما لا. ولكن في كل الأحوال تبقى الحقيقة، كالنجمة البعيدة في سماء مظلمة، تلهم من يجرؤ على النظر إليها، ولكنها أيضاً تُعمي من يقترب منها أكثر مما ينبغي. إن الرحلة نحو الحقيقة هي رحلة نحو الفناء، ولكنها أيضاً رحلة نحو الذات، نحو الفهم العميق لما نحن عليه حقاً، بعيداً عن الأقنعة والأوهام.
/ كاتب سياسي