مقامة دندنة مع بعقوبة السبعينات …. صباح الزهيري

منبر العراق الحر :

كلنا تعلمنا ان الوطنَ مبتدأٌ , فكيفَ يَجرّونَه ؟ ومن اين جاؤوا هؤلاء الغرباء , ((انت تريد ان تقنع هؤلاء بأنك لست َعدوّهُم , كل هؤلاء الغاضبين الذين لا تعرفهم ولا يعرفونك ايضا , لمجرد انك لم تغضب , أنت تريد ان تكون آمناً ولاتدري ان هذا يغضبهم أكثر وهكذا حتى تغضب يوما , وكل يوم تلد القرى معتوها يذهب إلى المدينة وينفخ في البوق )) كما قالها ابراهيم البهرزي , يباغتني هذا الذي اسمه الزمن, لص هو لا يؤتمن , وفي كل إنسان طفل صغير يبقى يناغشه مهما شاخ وكبر , ومن أسعد اللحظات أن يستيقظ ذلك الطفل طرباً فرحاً ليفرح فجأة ذلك الكهل معه , وفي قفزة بيضاء بلورية إستغرقتنى لأكتب أحلى النصوص عن بعقوبة , وما تذكرته عنها وانا في وقت مر , ومن عاداتي الا أزيفُ الواقع وألا أبحث له عن أدوات مكياج , طغى على مدينتي الغياب , في عالم ميت يكثف الحب والفقر, وجوعًا كاملًا مزيفًا للحياة , لتنضج الوجوه الباردة للغزاة , وتتساقط أكوام قذرة من خيبات الأمل . عندما تنتهي السهرة في نادي المعلمين , ويدوزن الشوق خمرًا ويحتسيه بذات الكأس , ننطلق ماشين صوب بيوتنا , كان الهواء إذا يمر في شوارع بعقوبة كأنما يعبر بين غابات من النايات والمزامير البهيجة , يمر بها حفيفاً , مع تلك النفوف اللطيفة لنهري ديالى وخريسان , فيأتي ذلك الصوت الألِق المنطلق من حناجر السكارى بمقامات عالية القرار , ليشعل مدينة الفرح فرحاً , وتصبح البساتين أحلاماً تمشي , كأنها جسد لروح آيبة , حكاياتي وأسراب أحلامي , التي خبئتها عند عتبات الشباب , تحتشد اليوم بين أفكاري وتحاصرني خيالاتها , ويصبح النحت على الذات , وتقشير الخلايا الميتّة ضروريّ يومياً , وفصلياً حتى لا نشيخ , ونفقد التوازن .

 

جلبتني الوظيفة الى بعقوبة مع عائلتي من بغداد وعمري 19 سنة , ولم اتصور أن تبهرنا هذه المدينة البسيطة , كانت لنا أيامنا هناك في تلك ألأحياء الوادعة , لقد سرقتنا قبل أن نراها , وحين رأيناها خطفتنا , ومضت بنا إلى ذُرى الذواري الذارية , كي نتعلم أبجدية الروح والريحان , والشبوي والرازقي وورد الجوري المقتحم , ونظرة النعيم , وبرودة اشجار الغرب على شواطيء ديالى , كانت العواصف تلقح الأزهار وتنتج الثمار , فيتشبع الهواء بالابتسامات , وحين أطرق الأبواب مثل شجرة , وتوثق العيون ما في الذاكرة , يسيل بي شغفُ المكان , وتتعانق شدات الورد بشهيق قبل الندى , أعشقها وفق هندسة التجلي المعلقة على إحداثيات العشق , وأنثر كؤوس معينها على شفة محراب المواويل , وأوزع أنفاسي على الأطراف , بين تقاسيم نهرٍ, وسطر نخيلات . كم قرأنا وعشقنا وكتبنا , وفكَّرنا , كانت بعقوبة في كل الصفحات التي قرأناها , ونحن في بدايات الشباب نفكر كيف نسرق القمر , وبنت القمر, والمدينة الجميلة , وتسأل نفسك ألآن وقد تخطيت الرابعة والسبعين : أهو المكان الذي سمعتَ فيه تلك الأغاني التي لازالت عالقة في خبايا الروح ؟ وبكيتَ فيه لحظات لن تعود ؟ وشربتَ خمور تمور تلك البساتين التي توارت ؟ ورأيتَ وجوه حبيبات غابرات ؟ وقرأت نشريات ذلك العمر الجميل ؟ حتماً لا, هذا محيط من الزمان والمكان لا أعرفه , بعقوبة أم خراب ؟ الجدٌّ والوقار ونحن نرتاد مكتبتها العامة ؟ أم فوضى ألأسواق وصيحات البائعين التي قضت على هدوء القراء الرزين ؟ . لقد تأخرت (الولاية) كما يسميها أهلها الخلصاء عن ركب الحضارة , كأنه نهر جفَّ , ويحق لنا التساؤل : أين الذين فجَّروا مخيلتنا الشابة ؟ وصنعوا أناقتنا التي بهذلها القادمون من نواحي الظلام , وكانوا مبتدأ الفعل والمنتهى في الجمال والتحضر , واين وعود تلك ألأحزاب ذات الأيديولوجيات المتنافسة بوطن يشاهق الذرى ؟.

 

صعقة مدوية لعقلك وأنت تُسائله : كيف جفَّ النهر؟ لن ترى ليالي هانئة بعدما هدموا نادي ذكريات شبابك الغابر , ولا تسمع اصداء اغاني العشاق الآملين بعدما حرموها , وسوف لا تقرأ كتباً تنير العقل حيث حلت ثقافة الجهل , وندر ان ترى طيور بيضاء فوق المدينة المقتولة . آه يابعقوبة, ترى مَنْ سَمَّمَ الأرضَ , فأصابَها برُعافِ البراكين ؟ لقد تحققت نبوءة ذلك الشاعر البطران الذي قال : (الباء فيك زيادة وعقوبة سكناك) , تقف حروفـي بين جمر السطور, تمارس العزف على أوتار ذاكرة أبت أن يطويها السكوت , عٌنِدِمَآ نِشٍتّآقِ يِّعٌمَ آلَضّجِيِّجِ فيِ آلَشٍرآييِّنِ , وتّصٌرخَ نِبِضّآتّ آلَقِلَبِ وِآلآعٌصٌآبِ ترتجف , وِآلَعٌقِلَ فِّيِّ ذّهوِل , وتّعٌمَ آلَفِّوِضّئ فِّيِّ جِمَيِّعٌ آلَحٌوِآَّس, فقط حٌروِفِّگ تّګفِّيِّ لَتّهِدِء فِّوِضّتّيِّ , نداؤك مرتبك ومغلق وأبكم مع الرعب , لا وجود يلامس الاحتمالات الرائعة , كنت دفئا لا يوصف , وكانت لديك أيضًا أجنحة أداعبها , لتجيبيني بلغة شفافة بالكاد تلمسني , سجينة أنت , ووجه ُ أيامك مصفٌّر, ليس من لفحة ِ الشمس ولا من نور القمر , إنه من عضات القدر , وطفولتك البريئة منسحقة ذكرياتها, وسط عذاب حمى ليلة صيف ساخنة , ترتدين ملابس سوداء تجسد نكوص الكآبة لهذه اللعبة من الشرر , جاءك الزمن الأعمى والناس الخطأ , أدراج الشمس تحت ذراع نهرك قد شحبت , وغابت الأسماك في أوعية الجفاف , ولكن يبقى الأمل , لعل بعضاً من الأمل لا يزال هناك , في عقول جيل جديد , رأى كيف أن المناكفة سرقت من الولاية روحها , وأن الانقسام مرض العصر السياسي الذي لا منتصر فيه , وحتى المنتصر خاسر , ومهما فعل أبناؤها الأفاعيل فلا قلق , ولا خوف , بل نهر من الصبر طويل طويل .

 

 

اترك رد