منبر العراق الحر :
تتحرك المهدوية في إيران والعراق داخل أفقين معرفيين متباينين، يكشف كل منهما عن نمط مختلف في إنتاج الحقيقة. فإيران تتعامل مع فكرة المهدي كـبنية معرفية منظمة Regulative Idea بالمعنى الكانطي، مبدأ غيبي لا يهدف إلى تفسير العالم بقدر ما يهدف إلى ضبطه، وتوزيع أدوار الفاعلين فيه، وترتيب العلاقة بين المقدس والسياسي. بهذا تصبح الغيبة ليست غيابا، بل حضورا مؤسسا يعلم الدولة كيف تفكر، وكيف تحكم، وكيف تبرر سلطتها. إن إيران لا تنتظر المهدي كحدث، بل كـنظام تفكير. فالظهور ليس الزمن الآتي، بل هو حد العقل السياسي الذي يوجه الممارسة ويسورها بمعنى.
في المقابل فإن العراق (بلد الهويات المتنافرة) يتموضع في أفق إبستمولوجي مختلف، إذ تتحول المهدوية إلى (بنية شعورية مولدة للمعنى) لا إلى بنية تنظيمية. فالعراقي الذي يعيش تحت وطأة ذاكرة جراحية تراكمت عبر قرون، يتعامل مع المهدي بوصفه (إمكانا) أكثر منه (نظاما). هو إمكانية تفتح ثغرة داخل واقع مسدود، وليس معيارا منهجيا يبني الواقع ذاته. هنا تعمل المهدوية عمل الظاهرة الفينومينولوجية (الظاهرتاهية لادموند هورسل) تعطي الوجود معنى بالحنين العرفاني، لا بالبناء، وبالاستدعاء، لا بالتقعيد، وبالاستعاضة، لا بالتنظيم. لذلك تتحرك المهدوية في العراق على مستوى الوجدان الجمعي قبل أن تتحرك على مستوى إنتاج المعرفة.
إن الفارق الإبستمولوجي بين إيران والعراق يكمن في أن الأولى حولت الغيبة إلى مبدأ عقلاني سياسي تقوم عليه شرعية السلطة، بينما بقيت الغيبة في الثانية أفقا وجدانيا تعويضيا يكشف هشاشة السلطة لأن سيرة هذه الأخيرة الفاسدة لا تمت بأصل الايمان بفكرة المنتظر الإصلاحي. إيران وضعت المهدي في بنية العقل ، والعراق وضعه في بنية الذاكرة . الأولى جعلت الانتظار ممارسة سياسية، والثانية جعلته ممارسة وجودية.
في إيران المهدوية تنتج خطابا ينظم العالم ويؤكد استمراره، في حين العراق، تنتج خطابا يدين العالم ويعلق نجاة مؤجلة على أفق لا نهائي.
وهكذا يصبح السؤال الإبستمولوجي العميق، السؤال الذي لم يبحث وفق المناهج النقدية الحديثة وهو هل المهدوية تنتج معرفة تقوي الواقع، أم تنتج معرفة تكشف عجزه؟ في إيران تؤدي المهدوية وظيفة تأسيسية تشرعن النظام، وفي العراق تؤدي وظيفة نقدية تعري النظام السياسي القائم . وبين التأسيس الايراني والنقد العراقي يظهر الاختلاف الجوهري بينهما، فإيران توظف الغياب كأصل للسلطة، والعراق الرسمي (شيعة السلطة) يوظفه كاحتجاج عليها في سلوكه الواقعي. ومن هذا التوتر (العراق الشيعي) و (ايران النظام الاسلامي الشيعي) تتولد المسافة الفلسفية التي لا تختصرها السياسة، بل يكشفها الاختلاف في طرائق إنتاج الحقيقة في كلا البلدين الذين يقولان ان احدهما امتداد للاخر عقائديا..
منبر العراق الحر منبر العراق الحر