الموت الرمزي للعلوم الانسانية…د.عدنان طعمة

منبر العراق الحر :
أطرح إشكالية معرفية رمزية كبرى: هل نحن أمام موت رمزي للعلوم الإنسانية أم أمام تحول في وظيفتها ودلالتها؟ هذا السؤال لا ينتمي إلى حقل الوصف السطحي للأزمة، بل ينفذ إلى عمق البنية الدلالية التي تنظم علاقة المجتمعات المعاصرة بالمعرفة، وبالإنسان ذاته. فالقضية لم تعد مجرد تراجع في الإقبال على تخصصات الفلسفة وعلم الاجتماع والآداب وعلوم القرآن واللغة العربية (العراق نموذجا) ، بل تحول جذري في المعنى الذي تمثله هذه العلوم داخل الوعي الجمعي العالمي، وضمنه الوعي العراقي على نحو خاص.
سيميولوجيا، يمكن قراءة العلوم الإنسانية بوصفها علامة ثلاثية البنية، دالها هو اسمها بوصفها حقلا معرفيا، ومدلولها هو المعنى الذي تحمله (الوعي، النقد، القيم، السؤال، التأويل)، أما مرجعها الواقعي فهو موقعها داخل الجامعة وسوق العمل والسلطة الرمزية. ما حدث خلال العقود الأخيرة هو انكسار العلاقة بين هذه المستويات الثلاثة، إذ لم يعد الدال يستدعي مدلوله الكلاسيكي، بل صار يستدعي معنى نقيضا له، تخصص انساني للطلبة بلا مستقبل ، معرفة بلا عائد مالي ومرتب شهري أو أجر أسبوعي ، وتعد ترف ثقافي لا غير . هكذا لم تقص أو تزاح العلوم الإنسانية ماديا فحسب، بل هزمت دلاليًا، أي داخل نظام العلامات ذاته، وهو أخطر أشكال الإقصاء.
لقد أسهم التطور الهائل في العلوم العلمية المادية والتقنية والألكترونيات الرقمية في إعادة تشكيل نموذج الإنسان المعاصر (حيوان تقني ناطق) . فلم يعد الإنسان ينظر إليه بوصفه كائنا للمعنى والسؤال أو يبحث عن الاشكاليات الفلسفية ، بل باعتباره مشروع إنتاج، ووحدة بيانات، وقيمة نفعية قابلة للقياس. لذلك انتقلنا من منطق لماذا نعيش؟ إلى منطق كيف نربح ومن السؤال الوجودي إلى الخوارزميات التي فرمتت وعي الانسان، ومن التأويل إلى الإحصاء والأرقام . في هذ النقطة تحديدا ، لم تقص العلوم الإنسانية لأنها عاجزة عن الفهم أو هي فن تأليفي صعب مستصعب، بل لأنها تربك منطق اليقين التقني (الحتمية التكنولوجية) الذي لا يحتمل الشك، ولا يتغذى من الأسئلة، بل من الحلول السريعة والنتائج الفورية…(انها الخوارزميات التي فتكتب بعالم الشك الفلسفي)
إن ما يجري عالميا يتخذ في العراق اليوم شكلا أكثر حدة ووضوحا. فاختيار أغلبية الطلبة والطالبات للتخصصات العلمية والطبية والهندسية لا يمكن تفسيره فقط بوصفه خيارا عقلانيا مرتبطا بسوق العمل، بل هو في عمقه ما يمكن ان أصفه بسيمياء خوف جماعي ورعب من المجهول . الدال هنا هو اندفاع الطلبة العراقيين نحو الطب والهندسة والتكنولوجيا والبايلوجيا والكيمياء (وكذلك اللغة الانكليزية لارتباطها بسوق عمل مضمون نسبيا) ، أما المدلول الخفي فهو النجاة، والأمان ، والاعتراف الاجتماعي بالشهادات العلمية ، في حين أن الرسالة اللاواعية التي يعيد المجتمع إنتاجها باستمرار هي أن العلوم الإنسانية لا توفر خلاصا فرديا في عالم مهدد بالانكسار. وبهذا يتحول الاختيار الجامعي من قرار معرفي إلى قرار وجودي محض، تحكمه غريزة البقاء أكثر مما تحكمه الرغبة في الفهم، لأن غريزة البقاء تعد من أقوى الغرائز البشرية..
إن المجتمعات الخارجة من العنف الدموي والحروب والصدمات ولازالت تعيش في ظل نظام فاسد ، كما هو حال العراق تعيد ترتيب سلم القيم على نحو اضطراري، فتتراجع لديه الأسئلة الكبرى لحساب أسئلة المعيشة، ويؤجل البحث عن المعنى لصالح البحث عن النجاة. في مثل هذا الأشكال ومخاض التحول السريع تنهار الهيبة الرمزية للمثقف والفيلسوف والاستاذ الاكاديمي الرصين ورجل الدين المتنور والعمامة التي تحمل سلطة رمزية نحو التنوير، ويصعد نموذج التقني وموظف المختبر الطبي والهندسي والناجي. لا لأن المعرفة الإنسانية فقدت قيمتها، بل لأن المجتمع لم يعد يمتلك ترف الدفاع عن الأسئلة في لحظة يشعر فيها أن جسده مهدد قبل وعيه.
ومع ذلك علينا الأعتراف إن الحديث عن موت العلوم الإنسانية يظل توصيفا مضللا إذا أخذ على إطلاقه. فنحن لا نشهد نهاية هذه العلوم أو اقتلاعها من جذورها، بل انزياحا في وظيفتها الرمزية، من مركز القيادة إلى الهامش الذي يتوسل من أجل البقاء ، ومن سلطة القرار وسيطرته على المجال العام إلى مكوثه في قفص الاتهام والمساءلة. لقد فقدت العلوم الإنسانية نفوذها المباشر، والخشية أن تفقد دورها العميق بوصفها ذاكرة المجتمع، في ظل ضعف مقاومتها لهيمنة المعنى الخوارزميات الذي يختزل الإنسان في رقم أو وظيفة.
والمفارقة الكبرى أن العصر الذي همش العلوم الإنسانية هو ذاته العصر الذي أنتج أكثر الأسئلة البشرية تعقيدا: سؤال الهوية في عالم رقمي، وسؤال العزلة في زمن التواصل، وسؤال الأخلاق في عصر الذكاء الاصطناعي، وسؤال معنى الإنسان في مواجهة الآلة. أي أن الحاجة إلى العلوم الإنسانية لم تتراجع موضوعيا فحسب، بل تراجعت رمزيا داخل نظام القيم السائد.
وعليه، يمكن القول إن أزمة العلوم الإنسانية اليوم، عالميا وعراقيا، ليست أزمة معرفة فحسب، بل أزمة موقع ودلالة. إنها أزمة ناتجة عن إعادة تعريف الإنسان نفسه داخل النموذج الحضاري المعاصر، وعن هيمنة منطق النفع والسرعة والقياس على حساب منطق السؤال والتأويل والمعنى. وفي العراق تتضاعف هذه الأزمة بفعل الخوف الجماعي، وغياب الاستقرار، وانكسار المشروع الرمزي للدولة، ما يجعل التخصص العلمي ملاذا وجوديا قبل أن يكون خيارا عقليا.
هكذا لا تكون العلوم الإنسانية قد نعت نفسها، بل أُجبرت على العيش في الهامش الرمزي لعالم صار يرى في المعنى عبئا، وفي السؤال خطرا، وفي النقد ترفا لا تتحمله زمن (النجاة من المعنى النظري). ومع ذلك فإن هذا الهامش ذاته قد نبحث عنه قريبا ولا نجده سوى عند أنفار هنا وهناك في مقاهي الكرادة ببغداد أو في مقاه عتيقة في الناصرية والبصرة والنجف والموصل وغيرها من المدن العراقية

اترك رد