حكايات غابرة في مدينتي ….كريم خلف الغالبي

منبر العراق الحر :
ما يميز مدينتي عن غيرها كثير ، فهي لا تختلف من حيث أسواقها وبناياتها وشوارعها وإن تبدو متواضعة ، لقد نالها من عوادي البين ما جعل زخارف حيطانها ثقوبا تنام على ثقوب من شدة ضرب المسامير التي تنوح بلا انقطاع بدموع رمادية باهتة وهي تنساب على تلك الحيطان ، جدران النعي المثبتة بتلك المسامير بارزة تلوح للقادمين بقطعها السوداء ، قوافل الشهداء لا ينقطع مسيرها ، فمداد الحروب الطاحنة ووقودها المستعر هو قامات النخيل المنحنية هنا على نهر الفرات وأعواد القصب والبردي المنتصبة في عمق وأطراف الهور وليست شجيرات العاقول أو الغضا الملتحفة برمال الصحراء ، ابناؤها طيبون يستمعون جيدا لخطب الزعماء ولا يرون ما يحاك من دسائس خلف صالات القمار وموائد الخمور ، وحين تكتظ غيوم الغيض في صدورهم ، يجلسون في المقاهي على نضائد مستديرة وأخرى متقابلة ، يفضفضون كي تمطر تلك الغيوم على أرائك الوجع المزمن ، مقسّمون لا يحتاجون الى التقسيم ومبعثرون لا يرغبون بالتنظيم ، حتى السنين التي خلت من الحروب تركت حكايات حزينة وأخرى لا تخلو من شتيمة ، ففي كل شارع وحارة وزقاق ألف حكاية وحكاية ، حتى أسماء الشوارع وتلك الحارات لها قصص غصَّ بها الزمن وما عاد باحث في التراث يكشف تلك المعاني ، فقرية فرحان ما زلت الى الآن أجهل فرحه ، كنا نخشى المرور بأزقتها أو السير بين بيوتاتها ما لم تكن لنا وجهة معروفة ، والا فاننا نعود بلا قوائم ولا أطراف ، لكل حارة شقي من الشقاوات يسمى بإسمها ، رحلت تلك القرية بعد أن اختاروا لها مكانا قصيّا كي تفسح المجال لأصحاب القصور أن يشيدوا بيوتهم وسط المدينة ، فالفقراء يغادرون بعد ان يبنوا بيوتا وئادهم في انصراف الشهر إيجار لايسد رمق جوعهم ، يتجمعون اولئك الطيبون بعد العشاء في المقاهي ، يغادرون منازلهم ولا يعودون إليها إلا آخر الليل ، يشاهدون بطلا قادما من خارج أسوار بلادٍ بعيدة ، يصفقّون له وهو يصرع بحركات ماكرة وكاذبة (جون فريري) وغيره ممن نسيت اسماءهم ، ثم يصطفون في الصباح التالي ارتالا كي يشتروا جرائدا تصور نزال ذلك البطل المغوار (عدنان القيسي) وهو يضرب خصمه بضربة عكسية على قفاه فيسقطه أرضا ليرقص الجميع محتفلا بتلك الضربة ، ما زلت أتذكر ذلك الرجل الغليظ القلب الذي كان مهووسا به ، يرسل زوجته لتشتري له سكّرا من دكانٍ بعيد كي يستطعم شرب الشاي ، لان السكر الذي عند صاحب هذا الدكان هو السكر نفسه الذي يحتسيه اثناء مشاهدته لتلك المباراة في تلك المقهى ، ويوما ما تأخرت زوجته كثيرا عندما وجدت الدكان مقفلا فجلست بانتظاره لكن رجلا آخر نصحها بأن تشتري من غيره فأبت أن تخالف رغبة زوجها لكنه اقنعها بأن السكر لا يختلف ، وحين يئست اضطرت أن تشتري من غيره ، وبعد أعدت الشاي لزوجها وأخذ كفايته وقبيل أن يهم بالخروج اعترفت له بما فعلت فمخالفة رغبة الزوج جناية في قاموسها لا يطاوعها قلبها على ارتكاب تلك الجناية ، رفسها بقوة في صدرها ثم اثنى عليها بضربة عكسية تعلمها من بطله المغوار قائلا لها لقد شعرت بطعم مغاير وأنا أشرب الشاي أيتها اللعينة لكنني سكت ، لم يمر على تلك الضربة شهر واحد حتى توسدت الثرى من غير رجعة .

اترك رد