منبر العراق الحر :
يُطالعُنا عَددٌ من النُّقادِ بالقولِ إنَّه مُصطلحٌ جديدٌ ظَهرَ في القرنِ التَّاسعِ عشر، وفي هذا نُوافقُ على حضورهِ كمصطلحٍ وكبَحثٍ أكاديمي مُمنهَج و مُتبلور، ولكن إذا ما تَعمقنا نَجدُ جُذورَهُ مُمتدّةً في التَّاريخِ، ولا سيما أنَّ لبَّهُ التَّأثرُ والتَّأثيرُ، ونجدُ أنَّه يُداني مُصطلحَ المُحاكاةِ الذي كانَ مَيدَانَه مُنذ عَهدِ أفلاطون
حِينما قالَ في مَعرضِ حَديثهِ عن المَدينةِ الفَاضلةِ:
” إنَّ الشِّعرَ فنٌّ قائمٌ على التَّقليدِ”.
ليَفتحَ الأفقَ بعدَ ذلكَ لأرسطو لمتابعةِ هذِهِ النَّظريةِ الذي بدورِهِ أضافَ:
” الشِّعر مُحاكاةٌ للطَّبيعةِ “، وأعادَهُ إلى غَريزَتين :
غريزةُ التّناغمِ والإيقاعِ و الأوزانِ وغريزةُ التّقليدِ.
وفي الحَديثِ عن أَقدمِ ظَاهرةِ تأثرٍ يَبدو أثرُ الأدبِ اليُوناني بالأدبِ الرُّوماني سنة 146ق.م، حيث حَاكَى الرُّومانيون أدباءَ اليُونان وكتّابَهم وفلاسفتَهم.
وفيما بعد انتقَلَت المُحاكاةُ إلى الآدابِ الأوربيةِ الكلاسيكيةِ.
وعِندَ العربِ ومع الفُتوحاتِ الإسلاميةِ وتَمازجِ الشُّعوبِ بعضها مع بعض، وانتشارِ حركةِ التّرجمةِ عُرفت ظاهرة التّأثرِ و التّأثير، وذلكَ في نهايةِ العصرِ الأموي وبدايةِ العصرِ العباسِي. حيثُ كتبَ الكثيرُ من النّقادِ والأدباءِ العَربِ حَولَ هذا الموضوعِ ضمنَ سلسلةِ كتاباتِهم المُتشعبةِ عَن السَّرقاتِ الأدبيةِ والتَّواردِ و التّأثرِ والتّأثيرِ، ويمكنُ القولِ أنّه مِن الصّعبِ استبعاد ناقدٍ لم يَخضْ في هذا الجانبِ، وفي هذا -من وجهة نظري- شَكلاً آخر من أشكالِ التّقاربِ مع مفهومِ الأدبِ المقارَنِ.
فالجاحظُ مَثلاً يرى أنَّ تَأثرَ الشّعراء المُحدثين بالقُدامى ضَرورةٌ حَتميةٌ، وأنّ لا شيءَ من لا شيءٍ، ورأيهُ أنَّ الاستعانةُ ببعضِ المَعاني لاعيبَ فيهِ، وإنّما العَيبُ في الإغارةِ على المَعاني، وميّز بين السَّرقة والأَخذِ.
وابنُ طباطبا العلوي عَدّ الشَّاعرُ مُبدعاً إن أخذَ لفظاً من غَيرهِ و ألبسَهُ ثَوباً قَشيباً.
وعن أبي هلال العسكري يَذكرُ إنّ من أخذَ معنى وأكساهُ لفظاً جَديداً أفضلَ مما تقدّمَ عليه كانَ أولى به مما تَقدّم.
وَهنا يَتفقُ العَسكرِي مع ابنِ طباطبا.
فنَجدُ تَلاقياً بينَ مفهومي السَّرقاتِ الأدبيةِ والتّأثرِ و التّأثير، وتتضحُ العَلاقةُ وثيقةٌ بينهما بشكلٍ أو بآخر.
وعن صَاحبِ كتابِ الوساطة بينَ المُتنبي وخُصومِه “عبد العزيز الجرجاني” فيرى أنّ موضوعَ التَّأثرِ والتَّأثيرِ أمرٌ شائكٌ لا يدركُهُ إلا من كانَ بَصيراً مُتمرسَاً بالشِّعرِ وفنونِهِ وطرائقِهِ.
وابن رشيق القيرواني في كتَابهِ العُمدة، طَرحَ مُصطلحَاً جَديداً هو( التَّوارد )
أو التَّشبه والاقتداء.
والفَارابي لم يرَ في المُحاكاةِ إلا تَقليداً.
ويُعرّفُ ابنُ سينا المُحاكاةَ “هي تقدمُ الشَّبيهِ لا تنقّل الشَّيء نفسَه”
وإذا تتبعنا القَرنَ الثّامن عشرَ في الغَربِ وجدنَاهُ حَافلاً بالتّغيراتِ، مما مَهدَ للدّراسات المُقارَنةِ، فمجهوداتُ فولتير 1778 ومعرفتُهُ العَميقةُ بالانجليزيةِ مَكّنتهُ من اكتشَافِ شكسبير وتقديمهِ للقارئِ الأوربي والفرنسي،
ومعرفتُهم بمذهبِ جُوته 1832 الذي دافعَ عن فكرتِهِ القَائلةِ أنَّ أدبَ الشَّمالِ الأوربِي خَالٍ من الأصالةِ التي يَتمتعُ بها أدبُ الجُنوبِ.
حتّى إذا ما كانَ القَرنُ التّاسع عشرَ ونتيجة للثَّورةِ الفَرنسيةِ وكُثرة الأسفَار وتَعدد التّراجمِ للأثرِ الأدبي الواحدِ لمختلفِ اللغاتِ وبتأثيرِ الحَركةِ الرُّومانتيكيةِ ظهرَتْ عددٌ من المُقارناتِ كعلمِ الأديانِ المقارَن وعلمِ الحَياةِ المقارَن وعلمِ القَانونِ المُقارَن وعلمِ اللغةِ المُقارَن، والأدبُ المقارَنُ أو بالأصح النَّقد المُقارِن.
وكانَ النَّاقدُ والكَاتبُ الفَرنسِي بُول فان تيغم أوّلَ من استخدمَهُ بعد سلسلةٍ طويلةٍ من الإرهاصاتِ على مَدارِ الزَّمانِ والمَكانِ.
وبذلكَ وبعدَ هَذا العَرضِ التَّاريخي الذي استعنتُ به لتَدعيمِ فكرةٍ وصلتني نتيجة البَحثِ والقراءةِ، الأدبُ المُقارَن لا يُعتبرُ علمٌ جديدٌ كمَا يَذكرُ عَددٌ من النُّقادِ والبَاحثين. لأنَّ جذورُهُ ضاربةٌ فِي التّاريخ التي تَقتربُ من مَفهومهِ الحَالي حِيناً أو تُلامسهُ حِيناً آخر، ولا أتصورُ أنّها تَبتعدُ عنهُ كَثيراً، لا تَبتعدُ عن لبِّ موضوعاتِهِ القَائمةِ على عُنصري التَّأثرِ والتَّأثيرِ، وكلُّ ما يُمكنُ قولهُ أنّه اُتخذَّ كمنهجٍ وأُسسَ لهُ في تلكَ الفَترةِ المُتأخرةِ نِسبياً، وفي هذا قد أختلفَ مع البَعضِ، وقد أتفقُ مع آخرين.
ولأهمية هذا المُصطلحِ مصطلحُ “الأدب المقارَن” سَيكونُ لي تَقديمُ لاحقٌ، أُظهرُ من خلالِهِ كيفَ تَطورَ وتَبلورَ وتَوسَّعَ؟ وكيفَ أصبحَ مَفهوماً مُستقلاً ومادةً في الجَامعاتِ المُتخصصةِ كَافَة.
وافر الشكر و التقدير للجهود المبذولة.