واقع الانقسام والتشوه المجتمعي: أزمة حضارية ومسؤولية غائبة …كتب رياض الفرطوسي

منبر العراق الحر :
منذ عقود، تعيش مجتمعاتنا حالة من التخبط الحضاري والركود الفكري، حيث لم نستطع تقديم أي منجز يليق بمكانتنا الإنسانية أو يُضاف إلى تاريخ البشرية. نحن مجتمعات استهلاكية، تأخذ من العالم أكثر مما تعطي، وتدور في حلقة مفرغة من الانقسام والصراعات الداخلية التي تعيق أي محاولة للنهوض . حالة الانقسام التي نعيشها تتجلى في جميع مناحي الحياة. مجتمعنا مشرذم بفعل الاصطفافات الحزبية والعشائرية، ومشحون بالكراهية بين مكوناته المختلفة. الكراهية أصبحت سلاحاً يُستخدم يومياً، حتى بين الأحزاب والتيارات التي يفترض أن تجمعها أهداف مشتركة. كيف يمكن لمثل هذا المجتمع أن ينهض أو أن يواجه التحديات العالمية؟ حتى في مجال الصحافة، الذي يفترض أن يكون منبرًا للتنوير، نجد أنفسنا أمام حالة من الرداءة والتكرار. الخطابات الإعلامية مليئة بالتطبيل والتسفيه، خالية من أي مضمون حقيقي يعكس فهماً لما يحدث من حولنا. الإعلام الذي كان يجب أن يكون أداة للإصلاح أصبح جزءاً من المشكلة، يعكس الانقسامات بدلاً من معالجتها . السلطة في مجتمعاتنا ليست إلا انعكاسًا لمجتمع يعاني من التشوه. المسؤول الذي يتولى المنصب غالباً ما يأتي بلا تعليم أو خبرة حقيقية. هذا المسؤول، المحمّل بأحقاد الماضي، يستغل موقعه للانتقام من تاريخه الشخصي ومن المجتمع، مما يزيد الأمور سوءاً .التجارب أظهرت أن قادة الصدفة هم الأكثر خطراً على المجتمعات. هؤلاء القادة، الذين وصلوا إلى السلطة فجأة، يعانون من اهتزاز في القيم والهويات، فيتصرفون وكأن السلطة إرث شخصي. مثل هؤلاء لا يبنون، بل يهدمون، لأنهم ينقلون تقاليد الشارع إلى مؤسسات الدولة، مما يجعل الفساد والتدهور سمة سائدة . منذ سنوات طويلة، لم يظهر خطاب واضح يعكس رؤية حقيقية لمستقبل البلاد. السلطة تفتقد إلى البرامج والخطط الاستراتيجية، بينما ينشغل المسؤولون في تصفية الحسابات الشخصية والسياسية. في مثل هذا الواقع، لا يمكن أن نتحدث عن بناء أو إصلاح . أحد أخطر التحديات التي تواجهنا هي انتشار النرجسية الخفية بين أفراد المجتمع. هؤلاء الأشخاص يرتدون أقنعة زائفة، ويعيشون على استغلال الآخرين. خلف المظاهر الناعمة والابتسامات المخادعة، يكمن عقل شرير لا يسعى إلا إلى تدمير الآخرين لتحقيق مصالحه . المشكلة أن هؤلاء الأشخاص ينخرطون في جميع جوانب حياتنا، سواء في السياسة أو العلاقات الاجتماعية أو حتى المؤسسات. تعاملنا معهم يشبه العيش في جحيم مستمر، حيث لا يمكن اكتشافهم بسهولة بسبب ذكائهم العالي وقدرتهم على التلاعب . الحل الذي نبحث عنه لا يكمن في ظهور زعيم منقذ، بل في بناء مؤسسة حقيقية قادرة على قيادة البلاد بمسؤولية وشفافية. لكن هذا البديل يواجه معضلة أخرى: من أين سنأتي بالكفاءات اللازمة، في وقت يتغلغل فيه العطب في النفوس والجروح المجتمعية عميقة وغائرة؟ تاريخ الحكم لدينا، منذ عقود طويلة، كان تاريخاً لشقاوات ولصوص ومجاملات وواسطات. لم تكن هناك معايير حقيقية للاختيار، بل كانت العلاقات الشخصية والتكتلات هي التي تحدد المصير . اليوم، أصبحت المعرفة العلمية والفكرية ضرورة مصيرية، لا مجرد ترف فكري. في عالم متغير، تكون المعرفة أحياناً مسألة حياة أو موت. لكننا لا زلنا نتعامل مع المعرفة كأمر هامشي، بينما تغرق مجتمعاتنا في التفسيرات الأخلاقية السطحية التي لا تلامس جوهر المشكلة . إصلاح مجتمعاتنا ليس مهمة سهلة، لكنه ليس مستحيلًا. علينا مواجهة الذات، والاعتراف بمشكلاتنا، والعمل على بناء قيم جديدة تؤسس لمستقبل أفضل. الحل يبدأ من إعادة صياغة العلاقة بين السلطة والمجتمع، وتعزيز قيم التعليم والمعرفة، ومواجهة التشوهات التي نخفيها خلف الأقنعة . التغيير يبدأ حين ندرك أن بناء مجتمع حقيقي يحتاج إلى أكثر من الخطابات والشعارات، بل يتطلب إرادة صادقة ومشروعاً واضحاً للنهوض من هذا الواقع المزيف.

اترك رد