منبر العراق الحر :
تحكم لعبة “الشطرنج” طريق سوريا السريع، المعروف بطريق “M5″، وفق مجموعة أدوات رئيسية: حاكم ووزير وقلعتين وثمانية جنود، إنّما بقواعد “مونوبولي” لجهة قسمة الأراضي بميزان “من يربح ومن يخسر”.
فما حكاية هذا الطريق “المتربّص” بأمر سوريا، من شمالها إلى جنوبها؟
معروف أن من يسيطر على طريق “M5″، الذي يبلغ طوله نحو 450 كلم، ويمتدّ من الحدود التركية حيث مدينة حلب، مروراً بمعرّة النعمان وحماة وحمص والنبك ودمشق ومحافظة درعا، وصولاً إلى نصيب على الحدود الأردنية، يفرض شروط اللعبة على الأرض السورية المغمّسة بالكثير من الدماء، منذ ما قبل الثورة، وما بعدها من أحداث راهنة مستجدّة، حيث تقارع الفصائل السورية المعارضة لإقصاء الجيش السوري والسيطرة على طريق تمرّ بها أعمال تجارية بلغت قيمتها قبل الحرب نحو 25 مليون دولار في اليوم الواحد.
هذا الطريق نفسه مفتاح محافظات سورية عدّة، بينها حلب وحماة وحمص ودمشق واللاذقية، لذلك وصف بأنّه الطريق الأهم استراتيجياً في منطقة الشرق الأوسط، وقد سعى إلى السيطرة عليه كلّ من روسيا وتركيا وإيران، وما تبع ذلك من تسويات أبرزها قيام “مناطق خفض التصعيد”، التي ضمنها “الثلاثي” نفسه، وتوزّعت في إثرها الفصائل المسلّحة في لعبة كرّ وفرّ مع الجيش السوري في السنوات الأخيرة.
حلب
من شمال الطريق الدولي، على الحدود التركية، انطلقت شرارة الثورة السورية في مدينة حلب في عام 2011، وهي النقطة نفسها التي انطلقت منها عملية “ردع العدوان” الحالية. في إثرها، دخلت البلاد في حرب استنزاف بين عامي 2013 و2016، نجح بعدها الجيش السوري في دحر الفصائل المسلحة واستعادة نفوذه على طول طريق “M5″، إلى حين إعلان “جبهة تحرير الشام” (النصرة سابقاً) بدء عمليتها الأخيرة التي وصلت سريعاً إلى حدود حماة، تساندها فصائل مسلّحة أطلقت عملية موازية اسمتها “فجر الحرية”، قبل أن تنقلب الأولى على الفصائل وتدخل في عملية “تحرير المحرر”.
لماذا حلب؟
متوقّع أن تؤدّي سيطرة الفصائل المسلحة على حلب إلى خسارة كبرى للحكومة السورية، كونها العاصمة الاقتصادية وقبلة التجّار والمسافرين عبر العصور.
قبل الحرب، شكّل مردودها ربع الاقتصاد السوري، وثلث القطاع الصناعي، ونحو 13 في المئة من القطاع الزراعي.
تضمّ أكثر من 4 آلاف منشأة صناعية وحرفية من جميع أنواع الصناعات، وتنتج 60 في المئة من احتياجات سوريا من الأدوية. و35 في المئة من صناعة النسيج الذي يغزو العالم. كما يعمل في حلب نحو 23 في المئة من القوّة العاملة في سوريا، والأهمّ أنّ طريق M5 الدولي السريع شكّل منذ القدم ممرّ عبور للقمح والقطن من الشرق والشمال السوري إلى باقي أنحاء البلاد، واستخدم لتبادل السلع مع دول عربية وإقليمية.
كانت المدينة التي شهدت بداية المواجهات محوراً لمعركة طاحنة خلال السنوات الأولى من الصراع في سوريا الذي اندلع في عام 2011، إثر تظاهرات مناهضة للرئيس السوري بشّار الأسد.
تعرّضت الأحياء الشرقية للمدينة لاحقاً لقصف مدمّر من مدفعية الجيش السوري والقوّات الموالية له، قبل أن تستعيد الحكومة السورية السيطرة عليها كاملة في عام 2016.
من هي الفصائل المتنازعة؟
بعد أن كان الطريق الدولي “M5” تحت سيطرة الجيش السوري المدعوم من قوات روسية وإيرانية وكتائب تابعة لـ”حزب الله”، حقّقت فصائل المعارضة منذ إطلاق عملية “ردع العدوان” في 27 تشرين الثاني (نوفمبر) تقدماً كبيراً خوّلها السيطرة على محافظة حلب، ومناطق مهمّة في محافظة إدلب التي تقع على الطريق الدولي السريع، وتحديداً سراقب ومعرّة النعمان، وصولاً إلى مطار أبو الضهور العسكري شرقي المحافظة، وبالتالي الدخول في مواجهات مباشرة مع الجيش و”قوّات سوريا الديمقراطية” (قسد).
وتزامناً مع إطلاق “هيئة تحرير الشام”، التي يتزعّمها “أبو محمد الجولاني”، برفقة فصائل أخرى، عملية “ردع العدوان”، أطلق “الجيش الوطني السوري” عملية أخرى تحت مسمّى “فجر الحرية”، استهدفت الفصائل الكردية المسلحة، وفي مقدّمها “قسد” شمالي شرق سوريا، إضافة إلى الجيش. فمن هم المشاركون؟
تضمّ عملية “ردع العدوان” الفصائل الآتية: “هيئة تحرير الشام”، و”الحزب الإسلاميّ الكردستاني”، و”الجبهة الوطنية للتحرير”، و”أحرار الشام”، و “فصيل نور الدين زنكي”.
في حين تضمّ عملية “فجر الحرية” الجيش الوطني السوري الذي يتألف من ثلاثة فيالق، يتكوّن أوّلها من مجموعة كبيرة من الفصائل، أبرزها “لواء الشمال”، و”اللواء 113″، و”تجمّع أحرار الشرقية”، و”جيش الشرقية”، و”اللواء 112″، و”لواء محمّد الفاتح”، و”فيلق الشام”.
أبرز فصائل الفيلق الثاني هي “فرقة السلطان مراد”، و”فرقة الحمزة” (الحمزات)، و”فرقة المعتصم”، إضافة إلى “جيش الإسلام”، و”فيلق الرحمن”.
ويضمّ الفيلق الثالث “الجبهة الشامية”، و”لواء السلام”، و”فيلق المجد”.
إلى أين؟
تسلك الفصائل المتنازعة السورية خطّ سير الطريق “M5″، كونه صمام الأمان الذي يحصّنها من خطر تعرضها للحصار من الجيش السوري. ومن خلاله، بدأت العملية في ريف حلب الغربي ممتدّة من “قبتان الجبل” إلى منطقة عندان، ومنها اخترقت الفصائل خطّ “M4” الدولي للوصول إلى إدلب، ومن ثمّ معرة النعمان باتجاه شمالي غرب محافظة حماة، التي تمثّل نقطة استراتيجية حاسمة في الصراع، إذ تفتح الباب إلى محافظة حمص من خلال طريق “M1” الدولي، ما يعزّز إمكانية تهديد اللاذقية والعاصمة دمشق.
“حماة”…القلعة تكتسب حماة أهمية كبرى في تحديد مسار المعركة الأخيرة كونها تتوسط سوريا وتربط بين جهاتها الأربع: شرق-غرب وشمال-جنوب، وتضمّ مقرات عسكرية وأمنية حساسة منها مطار حماة العسكري، ومستودعات أسلحة، وألوية للجيش ومدارس، مثل “مدرسة المجنزرات”، عدا فرع الأمن العسكري، وغيرها من المقرّات. أمّا محاورها الرئيسة: خطاب، شمال غرب، ومعردس، شمالاً، ومعر شحور، شمال شرق.
علاوة على ذلك، تُعدّ حماة رمزاً للمحطات التاريخية في سوريا، خصوصاً بعد أحداث عام 1982، التي شكّلت جزءاً من الذاكرة الجماعية “الدموية” في البلاد، إذ تعرّضت في حينه لحملة عسكرية قُتل وشرّد فيها عشرات الآلاف من سكّانها، في حدث كان له الدور الأبرز في انضمام حماة في عام 2011 إلى الاحتجاجات الشعبية على نحو واسع النطاق، قبل إخماد الحراك وعسكرة الثورة السلمية.
يُعدّ ريف حماة من النقاط الساخنة في المعركة الأخيرة، حيث عملت إيران على تغلغل “حزب الله” هناك مستغلة فقر أبناء الريف. ومن مخاطر السيطرة عليه أنّه يشكّل بوابة التقدّم باتجاه البادية السورية وريف حماة الجنوبي وحمص الشمالي، والذي يمكن الفصائل المسلحة في حال سيطرتها على حمص من عزل دمشق عن مناطق الساحل وقطع (M5) الرابط بين دمشق وحمص وحماة وحلب.
“شاهين”… الأسرع من الطريق
بانقضاء معركة قلعة حماة، بعد سقوط قلعة حلب بيد الفصائل المسلحة، تتنافس المسيرات التي أطلقتها كتائب شاهين الطريق الدولي السريع في رحلة الانقضاض على الأهداف، حيث أظهرت “الانتحارية” منها براعةً في استهداف نقاط تمركز الجيش ومواقع إطلاق الطائرات ومخابئ الأسلحة.
منتصف الطريق
وعلى الرغم من استراتيجية موقع “M5″، يتوقع الكاتب والصحافي السوري ابراهيم مراد أن لا تتخطى عملية “ردع العدوان” حمص وربما تتوقف العملية في منتصف المدينة لاعتبارات عدة يوجزها: “قد يكون الوضع الاقليمي غير مستعد لهذا الانتقال الكبير والمفاجئ من وضعية حكم الى أخرى، مع ما ينتج عن ذلك من فوضى على الأرض. ولكن يبقى أنه في السياسة، في الآونة الأخيرة، ثمة ضبابية ومفاجآت”.
ويرى مراد أن التقدم السريع حصل نظراً لعوامل معرفة المقاتلين بخريطة الطرقات الرئيسية والفرعية، إذ تقدمت الهيئة من سراقب الى حماة، وكذلك من بلدة السفيرة، ومن حلب الى حماة، مدعومة بخط “M5” الذي عجّل في السيطرة على المدن من حلب الى حماة، ومن ثم الى ريف حمص.
ويلفت إلى أن أسلوب التمشيط العرضي للمساحات الشاسعة التي سيطرت عليها هيئة التحرير والفصائل جاء بمثابة “تكتيك” يوازي سرعة الطريق الدولي في الوصول إلى الأهداف.
أضاف: “ما يجري ما يزال ضبابياً. من الجلي أن الأحداث المتسارعة في سوريا وخريطة التوسع جاءت بعد تفاهمات ولكن تبقى السيطرة الكاملة صعبة نظراً إلى العوامل الدولية والإقليمية، إضافة الى أن الهيئة غير مستعدة لضبط الوضع الأمني بشكل كامل في المناطق التي يتواجد فيها النظام السوري. وفي المحصلة، الوضع حاليا غير مستقر، فالأهالي يؤسسون في الجنوب السوري مجموعات حماية خاصة. أما في شمال شرق سوريا هناك توسع لقوات سوريا الديموقراطية على حساب النظام السوري. واللافت أن “داعش تحاول أن تستثمر ما يجري آخذة في التوسع نحو البادية السورية”.
وبانتظار الآتي من ساعات حاسمة، من يفقد السيطرة على طريق “M5” الدولي الأطول في الشرق الأوسط، حتماً مصيره “كش ملك”. ولحجارة “النرد” بقية…