منبر العراق الحر :
في يومٍ أردتُ لهُ أن لا يكون شبيهاً كأيامِ عمري المتشابهات ، والتي منحتني شهادةَ اكبر مغبونٍ في التاريخ. في هذا اليوم الذي مدَّ عنقُهُ من بين أيامي المطأطئة الرؤوس,استطعتُ أن اصطحب ولدي الذي طالما ألحَّ عليَّ لأحقق له أمنية الدخول إلى مدينة الألعاب ,لم يدخلها قط بسبب حيلتي ومكري وتعلقي بأكاذيب غدٍ وبعد غد التي تراكمت لتعدَّ سني عمره البالغة اثنتا عشر سنة.
مدينتنا التي خلَت من ألعابِها كلها ولم يبقَ سوى هياكلٍ أبرزُها (دولاب الهوى) ملوحاً لأطفالنا بمقاعد خالية خاوية تعبث فيها الريحُ ، ولا يتحرك إلا بماكينة ادخرنا ثمنها لشراء دبابةً نسحقُ فيها رؤوس أعدائنا.
هذه المدينة التي أوهمت أطفالَنا وحبست أمانيهم ، فعادوا لا ينظرون لها بل يفضلون النظر إلى طائرات مقاتلة ملأت سماءهم راسمة لهم بدخانها الأبيض دروبا في فضاء لم نحلق فيه ابدا.
وأنا أمرُّ صوبَ النهرِ تذكرت أيامي بأحلامها الصغار حين كنا نركب دولاب هوانا الخشبي , كان يدور ثقيلا بقوة عضلات صاحبه المفتولة ، والذي يمنينا بـ ( العيديه) وهي زيادتنا دورة أخرى خارج عدد الدورات التي يرسمها بذهنه,هذا الدولاب الذي يختفي حالما تنتهي أيام العيد لنبقى حالمين بانتظار عيدا آخر(حتى أيام صغري كان لها طعما لا يشبه طعم أيامك يا ولدي) .
وأنا أمرُّ صوبَ النهرِ تذكرت ( جسراً على نهرِ درينا ) قادني إليه كاتب هذه القصة احسست بقدمي تمر على ذلك الجسر وأنا قابع هنا في مدينتي التي شدّت وثاقي وكبلتني بهموم ليس لها نهاية,ما أشبه جسر درينا بجسر النصر الذي تطايرت أوصاله في أول صاروخ أطلقه ذلك الطيار الأمريكي ، الذي انتظر مرور أكثر عدد من الناس عليه ، فاختار نهاية الدوام بعد الظهر وسدد ضربته التي مزقت أحشاء أكثر من (400) شخص من أهالي مدينة الناصرية.
وأنا أمرُّ صوبَ النهرِ تذكرت ثملا أراد أن يعبر بعد الحادث بأسبوع، وعندما صعد السلم الذي يؤدي إلى سطح الجسر توقف مترنحا وتساءل (وينك ياجسر) , وكأنه لم يدر ما جرى له.
تذكرت آخرا كان يبكي منتحبا,سألته هل فقدت أحدا عليه ؟ قال لا ولكن ابكي آثار حبيبتي التي كانت تصحبني ونحن نعبر عليه كل يوم صوب المتنزه,كم داعب أقدامنا كم منحنا نسمات عليلة كم وكم….
لِمَ تركت الجسر يا عبد الرحمن منيف ؟ هل حلمت بالعودة إليه ؟..هل استقبلك وأنت تحضن أطراف مدينتك بقلبك الواسع؟..إننا لم نترك الجسر… هو الذي تركنا وغادر فاستبدلناه بجسر آخر يحضن عجلات الدبابات .
وأنا أعبرُ صوبَ النهرِ تذكرت ثلاثةَ شبانٍ في أول الثمانينات عندما قرروا عدم الإنتماء لهذا العالم فالقوا بأجسادهم في النهر ولفظوا انفاسهم الأخيرة في قيعانه المتحجرة ولم يسمع أنينهم أحد.
قال لي أحد معارفهم ، لابد لنا أن نرفع دعوةَ قضاء ٍضد الكاتب الانكليزي (كولن ولسون) فهو الوحيد الذي اذنب بحقهم وفقدوا حياتهم , كيف لا ؟ وقد دفعهم لاتخاذ قرارهم هذا بعد اكمالهم قراءة نصوصه في (اللامنتمي وما بعد اللامنتمي)
وأنا أعبرُ صوبَ النهرِ تذكرت عرساً في مدينة العابنا هذه,مازالت تتردد في مسامعي (يا أغلى من أيامي ..يا أحلى من أحلامي ..) . كان الصوت يمتد كالمدى يزيدنا عشقا وجوىً ويمطرنا ادمعا تثبُ من حدقات العيون.
وأنا امرُّ صوبَ النهرِ تذكرت اولئك الذين يجلسون على جرف النهر و لم يتركوا لنا سوى قناني فارغة حبسوا انفاسهم فيها وأغلقوها بأحلام لم تأتي بعد . هممت لدخول مدينة الألعاب إلا إنني توقفت للبحث عن حيلة اخرى اصرف فيها وجهة نظر ولدي , غيرت مسيرتي تاركا مدينة احلام ولدي خلف ظهري , هناك في بستان (شيرون) حيث النخيل وأشجار الرمان التقط له( النبق) واعلمه صيد السمك بصنارته التي يدليها من على شرفة بيتنا ولم تلامس الماء بعد.
انظر بُني ها هو (الناعور) الذي سألتني يوما عنه . انظر كيف يستطيع سحب مياه النهر كي يتمكن الفلاح من سقي زرعه , أي آلة نمتلك ؟ وأي علم نستخدم في عصر انفجار العلوم ؟ تبا لك يا نبوخذ نصر..لماذا لم تترك لنا كتابا تعلمنا فيه كيف استطاع الماء ان يتسلق جدران قصرك ليروي جنائنك المعلقة ؟! قراناك كلك من راسك الى قدمك ولم نعثر على ما توصلت اليه. ها أنا اليوم أرسم ملامح وجهك على وحول تسكعي وعلى موجات اهوارنا المجففة في الجنوب.
لِمَ يعصبون عينيه يا ابتي ؟ انه حمار لا يدرك بعقله فيدور ضانا بأنه يمشي الى حيث يريد صاحبه . توقفت قليلا وأيقنت باني اكثر استحمار منه .. ها انني مشدود الى عمل لا ينتهي الا في الساعه العاشره ليلا..ماذا اعمل ؟ وكيف اعيش ؟ لابد لي ان احمل فوق ظهري الطين بعد انتهاء ساعات الدوام في المدرسة , ذلك ما قاله عظيمنا المبجل وقائدنا المنتصر ابدا.
وعندما عز علي ذلك , قصرت يدي وفضحني العوز وعندها قررت الامتثال لأمره فهو يعلم جيدا كيف استجيب له , قلدني لامة حربي لأذهب هناك حيث السراب استجديه ماءا لأولادي وزوجتي, هكذا نحن تعلمنا البحث عن المجهول في المجهول ولم نتخذ من دروس الرياضيات عبرا للبحث عن المجهول في المعلوم.