منبر العراق الحر :
في خضم التحديات الأمنية والسياسية التي تواجهها الدولة العراقية، يبرز ملف الحشد الشعبي كإحدى القضايا الأكثر جدلًا في المشهد الداخلي والإقليمي. فمنذ مشاركته الفاعلة في دحر تنظيم داعش واستعادة الأراضي العراقية، بات هذا التشكيل العسكري عنصرًا محوريًا في معادلات القوة والتوازن داخل العراق. وبينما يُنظر إلى سلاح الحشد الشعبي كركيزة أساسية في تعزيز الأمن القومي وردع التهديدات، تثار تساؤلات حول تداعياته على استقرار الدولة، وسط دعوات متباينة بين دمجه الكامل في المنظومة الأمنية العراقية أو بقائه كقوة مستقلة تمتلك قرارها العسكري والسياسي.
وإن قوة أي دولة في عالم السياسة المعاصر لا تُقاس فقط بعدد سكانها أو ثرواتها الطبيعية، بل بقدرتها على فرض توازن ردعي يحمي سيادتها ويصون كيانها السياسي من الاختراقات الداخلية والخارجية. والعراق، كدولة محورية في المنطقة، ليس استثناءً من هذه القاعدة، بل هو في قلب معادلات الصراع الجيوسياسي الذي تتحكم به القوى الكبرى والإقليمية. ومن هنا، يصبح سلاح الحشد الشعبي والقوات الأمنية والاستخباراتية ضرورة استراتيجية وليست مجرد مسألة عسكرية بحتة، بل عاملًا حاسمًا في رسم معالم الاستقرار والسيادة الوطنية في ظل المشهد السياسي والأمني المعقد الذي تعيشه البلاد.
*معادلة الردع: لماذا السلاح ضرورة وليست خياراً؟*
شهد العراق خلال العقود الأخيرة موجات من الحروب والصراعات الداخلية التي كانت تهدف إلى إضعافه، وإعادة رسم خريطته وفق مصالح قوى دولية وإقليمية. ومنذ سقوط الموصل عام 2014 على يد تنظيم داعش، بات واضحاً أن قوة العراق الحقيقية لا تكمن في الاتفاقيات السياسية، بل في تماسك قواه العسكرية والأمنية والاستخباراتية، التي استطاعت أن تعيد التوازن إلى معركة كان الهدف منها إسقاط العراق في هاوية الفوضى.
الحشد الشعبي، الذي تأسس بفتوى المرجعية الدينية العليا، لم يكن مجرد قوة عسكرية إضافية، بل كان استجابة تاريخية لحالة فراغ أمني كادت أن تطيح بالعراق بالكامل. فقد أثبت في معارك الموصل وتكريت والفلوجة وغيرها أن القوة المسلحة حين تكون في أيدٍ وطنية مؤمنة بقضيتها، قادرة على تغيير مسار التاريخ. فكما كان الجيش العراقي والقوات الأمنية صمام الأمان للدولة، كان الحشد الشعبي هو اليد التي أعادت التوازن إلى المعادلة الأمنية بعد انهيار الخطوط الدفاعية الرسمية أمام اجتياح داعش.
فوجود قوة عسكرية ردعية في العراق ضرورة لا يمكن تجاوزها، خاصة بعد التحديات والصراعات والتدخلات الخارجية التي هدفت إلى إضعاف الدولة العراقية, وتهديد نظامها السياسي. وعليه، فإن الحشد الشعبي يشكل اليوم جزءاً أساسياً من هذه المنظومة الدفاعية، جنباً إلى جنب مع الجيش العراقي والقوات الأمنية الأخرى.
*أهمية السلاح في توازن القوى*
1. الحماية من التهديدات الإرهابية: رغم هزيمة تنظيم داعش، لا يزال خطر الإرهاب قائماً، خاصة مع إمكانية عودة التنظيم بطرق مختلفة.
2. الردع الإقليمي: العراق يقع في منطقة تتصارع فيها القوى الإقليمية والدولية، وسلاح الحشد الشعبي يساهم في حفظ التوازن بين هذه القوى.
3. تعزيز سيادة الدولة: امتلاك قوة ردعية يضمن عدم تحول العراق إلى ساحة مفتوحة أمام التدخلات الأجنبية.
*نزع سلاح الحشد الشعبي*
الذين يطالبون اليوم بنزع سلاح الحشد الشعبي يتجاهلون حقائق التاريخ والجغرافيا، بل ويتناسون ما حدث لجماعات أخرى تخلت عن سلاحها في لحظات حاسمة، فكان مصيرها الفناء.
• في أفغانستان، عندما أُجبر شيعة الهزارة على التخلي عن سلاحهم لصالح طالبان، لم يجلب لهم ذلك السلام، بل قادهم إلى مذابح جماعية أودت بحياة الآلاف.
• في سوريا، حين تخلت بعض الفصائل العلوية عن سلاحها في مناطق مثل إدلب وحلب واللاذقية وطرطوس، لم يكن مصيرها الأمان، بل تعرضت لحملات تطهير ممنهجة على يد الجماعات المتطرفة.
• في البوسنة والهرسك، عندما وقع المسلمون على اتفاقيات نزع السلاح تحت وعود السلام، وجدوا أنفسهم أمام مذبحة سربرنيتسا، حيث قُتل الآلاف دون أن يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم.
ومن هذا المنطلق الذين يطالبون بنزع سلاح الحشد الشعبي لا يفهمون أن هذا السلاح لم يكن خياراً رفاهياً، بل هو ضرورة وجودية أمام مشروع استئصال حقيقي يستهدف العراق وشعبه.
*سلاح الجيش العراقي: القوة السيادية في معادلات الصراع*
العراق لا يمكن أن يكون لاعباً رئيسياً في التوازنات الإقليمية والدولية دون وجود قوة عسكرية قادرة على حماية سيادته، وهذا ما جعل الجيش العراقي وقواته الأمنية والاستخباراتية في مواجهة مباشرة مع محاولات إضعافه وتفكيكه. فمنذ عام 2003، سعت جهات كثيرة إلى إعادة تشكيل الجيش العراقي بطريقة تجعله هشاً وغير قادر على مواجهة التحديات الكبرى. لكن رغم ذلك، أثبت الجيش العراقي في أكثر من محطة قدرته على النهوض، وكان له الدور الأساسي في معارك التحرير جنباً إلى جنب مع الحشد الشعبي والقوات الأمنية الأخرى.
لكن المعركة لم تنتهِ. فالخطر لم يعد مقتصراً على الجماعات الإرهابية مثل داعش، بل أصبح يمتد إلى مشاريع التقسيم والتطبيع، التي تهدف إلى جعل العراق بلا قوة ردع حقيقية. ولهذا، فإن الحديث عن تطوير القدرات العسكرية العراقية لم يعد مجرد مسألة داخلية، بل هو جزء من صراع القوى الإقليمية، حيث تسعى بعض الدول إلى إبقاء العراق ضعيفاً حتى لا يكون له دور في موازين القوى.
*مخاطر تفكيك الحشد الشعبي*
1. إضعاف الدفاعات الوطنية: تفكيك الحشد أو تجريده من سلاحه دون وجود بديل قوي قد يؤدي إلى فراغ أمني يهدد استقرار العراق.
2. تصاعد النفوذ الخارجي: قد تستغل بعض القوى الإقليمية والدولية تفكيك الحشد الشعبي لإعادة رسم المشهد الأمني بما يخدم مصالحها.
3. إمكانية نشوء صراعات داخلية: أي محاولة لفرض تفكيك الحشد دون توافق سياسي قد تؤدي إلى توترات داخلية بين الفصائل المسلحة والحكومة.
*السلاح ضمانة البقاء*
لا يمكن لأي دولة أن تحافظ على سيادتها دون قوة ردع حقيقية، والعراق، الذي واجه أخطر موجات الإرهاب، ليس استثناءً. إن الحفاظ على سلاح الجيش العراقي، والحشد الشعبي، والأجهزة الأمنية والاستخباراتية، ليس خياراً، بل هو ضرورة استراتيجية لمواجهة أي مشروع يستهدف تفكيك الدولة العراقية.
فأمريكا تسيطر على العالم وتفرض عليه الشروط من خلال القوة العسكرية، وهذا دليل على أن النفوذ السياسي والاقتصادي لا يتحقق إلا بوجود قوة تحميه وتفرضه على الآخرين. ومن يخلع سلاحه اليوم، قد لا يجد غداً من يدافع عنه، والتاريخ شاهد على أن الأمم التي تخلت عن قوتها أصبحت مجرد صفحات في كتب الذكريات. فإما أن يحمل العراق سلاحه دفاعًا عن وجوده، أو يترك نفسه لمصير اختبرته شعوب أخرى، فدفعت الثمن غاليًا.
