كافكا في متاهة الكوابيس… إبراهيم أبو عواد / كاتب من الأردن

منبر العراق الحر :

وُلد الأديب التشيكي فرانز كافكا ( 1883_ 1924 ) في براغ ، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية النمساوية المجرية ، لعائلة ألمانية من الطبقة الوسطى تنحدر من أصول يهودية أشكنازية . لَم يتوقع أن يصبح كاتبًا عالميًّا ، ولَم يتخيَّل في يوم من الأيام أن تصبح مؤلفاته من عيون الأدب العالمي . فالقليلُ من كتاباته نُشرت أثناء حياته ، ولَم تستقطب انتباه القُرَّاء . والكتاباتُ القليلة تعني أنه لَم يكن حريصًا على نشر أعماله ، ونَيل الشُّهرة والمجد الأدبي . كما أنه طَلب من صديقه المُقرَّب ماكس برود أن يُتلِف كل كتاباته بعد موته. وهذا يعني أنه غير مقتنع بها ، ويرى أنها لا تستحق النشر ، ولا فائدة من اطلاع القُرَّاء عليها . وبالطبع ، لَم يستجب صديقه لهذا الطلب ، ونشر أعماله بعد موته ، وصنعَ مجدَ كافكا الأدبيَّ إلى الأبد .
ونظرةُ كافكا إلى أعماله الأدبية تحمل فلسفةَ جَلْد الذات ومُعاقبتها ، لذلك لَم يُرِد أن ترى أفكاره النور . فقد كانت الكتابةُ بالنسبة إليه عملاً شخصيًّا ، وحوارًا ذاتيًّا ، وتفريغًا للمشاعر على الورق . كَتَبَ لِنَفْسِه ، كَتَبَ كإنسان مجروح ومكسور ، ولَم يَكتب كصاحب مدرسة أدبية ، أو زعيم تيار فكري . وهذا الانكسار المسيطر على حياته الشخصية وأعماله الأدبية ، ينبع من غربته الروحية واغترابه العاطفي ، وعُزلته الوجدانية ، فهو يشعر على الدوام أنه خارج الزمان والمكان ، ولا ينتمي إلى العناصر المحيطة بِه . فهو تشيكي المولد ، يهودي الديانة ، يكتب ويتكلم بالألمانية . وهذا الأمر يحمل في طيَّاته بذور العزلة والغربة ، فالتشيكُ يعتبرونه ألمانيًّا ، والألمانُ يَعتبرونه يهوديًّا . ومعَ أنه تشيكي المولد لا يكتب باللغة التشيكية ، ومعَ أنه يهودي الديانة لا يَكتب باللغة العِبرية . وهذه الغربةُ المتفاقمة جَعلت منه شخصًا خجولًا ومُعَذَّبًا ، وأدخلته في صِدام معَ والدَيه ، فصارت علاقاته الاجتماعية متوترة تمتاز بالقلق والخوف ، ولَم تكن أزماته الاجتماعية إلا انعكاسًا لأزماته الروحية . درس كافكا الكيمياء والحقوق والأدب في الجامعة الألمانية في براغ عام 1901 . وحصل على الدكتوراة في الحقوق عام 1906.لكنه عمل موظفًا صغيرًا في مؤسسة للتأمينات العمالية عام 1908، وعانى من التناقض الصارخ بين مهنته التي تُشكِّل مصدر رِزْقه ، وبين قضاياه الفكرية وشؤونه الأدبية .
وهذه الأزمة تُضاف إلى أزماته المتكاثرة ، التي انتقلت إلى إنتاجه الأدبي . فالكتابةُ الأدبية عِند كافكا هي هروب من الذات والواقع ، وتحويل الأحلام إلى كوابيس ، وإظهار للجانب المأساوي في الحياة ، وتسليط الضوء على المعاناة والألم والحزن، وإبراز المنحى السَّوداوي في داخل الشخصيات وخارجها. لذلك استحق كافكا لقب ” رائد الكتابة الكابوسية ” .
وهذا اللقبُ يتَّضح معناه إذا عَلِمْنا أن روايات كافكا تنتهي دائمًا بموت البطل معَ اختلاف أسلوب الموت. فبطلُ رواية ” المسخ ” ( 1915) يموت ، وبطل رواية ” المحاكمة ” (1925) يُعدَم ، وبطل رواية ” القلعة ” ( 1926) يُقْتَل .
انهارت حياة كافكا،وانكسرَ عالَمه الواقعي، فحاول إحياء نفْسه من جديد في أعماله الأدبية ، وسعى إلى بناء عالَمه الخاص على الورق. هذا العالَم الافتراضي المحكوم بقانون الأحزان والآلام ، والذي يَظهر في الألفاظ الكئيبة والمعاني الصادمة .
لَخَّصَ كافكا فلسفةَ إنتاجه الأدبي بالكامل في بداية رواية ” المسخ ” ، حيث يقول عن أحد الشخصيات : (( استيقظ جريجور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة ، فوجد نَفْسَه قد تحوَّلَ في فِرَاشِه إلى حشرة هائلة الحجم )). هذا هو السطرُ الأول في الرواية ، ويُبرِز نظرة كافكا إلى أنساق الحياة ، وتفاصيل المشاعر الإنسانية ، وفلسفة العلاقات الاجتماعية. فالإنسانُ_ في نظر كافكا _ هو شخص مسحوق منبوذ لا قيمة له ، تَطحنه قسوة الحياة المادية ، وكُلُّ الذين يُحيطون بِه لا تربطهم بِه أية علاقة، إلا علاقة المنفعة والمصلحة ، في ظل الغياب التام للمشاعر الإنسانية.
وهذه النظرة السَّوداوية للإنسان والمجتمع والعالَم ، متجذرة في نفسية كافكا الذي عانى من طفولة تعيسة رغم ثراء أبيه. فأبوه كان شخصًا مُستبدًّا سحق شخصية ابنه، ولَم يستطع الابنُ أن يُفلِت من كابوس أبيه ، فعاشَ الابنُ حائرًا بين مشاعر الاحترام التي يَجب أن يحملها تجاه أبيه ، وبين مشاعر الكراهية والحقد بسبب سيطرة أبيه المطْلقة وشخصيته الطاغية . شعر كافكا بأن أباه رَجل غريب لا يَمُتُّ له بِصِلة ، ولَم يشعر بالدفء والحنان في بيته ، وأحس بالعزلة والاغتراب بين أفراد عائلته ، فسعى جاهدًا إلى بناء علاقات عاطفية مع النساء ، لعله يجد تعويضًا عن حِرمانه الروحي ، وانكساره الجسدي، وخَيبات الأمل الكثيرة في حياته .
بَحَثَ عن الحب والحنان خارج البَيت ، لأنه لَم يجدهما داخل البيت . ولكنَّ هذه العلاقات العاطفية باءت بالفشل ، ولَم يستطع كافكا أن يُتوِّج أيةَ علاقة بالزواج . وهذه القضيةُ تُشير بوضوح إلى عدم قدرته على إتمام الأمور ، ونقطةُ الضعف هذه لَم تُؤثِّر على مشاعره الإنسانية وعلاقاته الاجتماعية فَحَسْب ، بل أيضًا أثَّرت على إنتاجه الأدبي . فأغلبُ أعماله الأدبية غير مُكتمِلة ، وهذا يعني أنه عاجزٌ عن إيجاد نهايات منطقية لقصصه ورواياته. لقد كانت أعماله الأدبية _ كتفاصيل حياته _ أسئلة بلا إجابات ، ومساحات مفتوحة على كل الاحتمالات والكوابيس والكوارث . لَم يسيطر على مسار الأحداث على الورق ، ولَم يسيطر على تفاصيل حياته في الواقع . وفي هذا إشارة واضحة إلى التشويش الرهيب في ذهنه ، والقلق الوجودي الذي يسيطر على أعصابه ، والخوف الكامن الذي يَشُل قدرته على التفكير والتخطيط للأمور .
كان خائفًا من كل شيء. خافَ من الزواج ( الارتباط )، فانهارت علاقاته النسائية ، وخافَ من تقديم نَفْسِه بين أفراد عائلته ، فصارَ ظلًّا باهتًا لشخصية أبيه القوية ، وخافَ مِن أكل اللحوم ، فصارَ نباتيًّا ، وخافَ من الأمراض ، فأصابه السُّل الذي دمَّر حياته ، وأنهاها في 3 حزيران / يونيو 1924. وكان في الحادية والأربعين من العُمر .
استمرت أزمات كافكا بعد مَوته، فقد تعرَّضت كتاباته للحرق على يد هتلر ، وتَمَّ اعتباره يهوديًّا خائنًا ، ومثالًا للعبث والتشاؤم والضياع والسَّوداوية ، لكنَّ أحدًا لَم يَلُمْ هتلر على فَعلته ، لأن كافكا شخصيًّا كان قد أحرقَ أغلب كتاباته .
ومِن السُّخرية أن نقول : إن هتلر قام بتحقيق وصية كافكا التي لَم يُحقِّقها صديقه المُخْلِص ماكس برود ، وهي حرق كتاباته ! .

اترك رد