“إهدني شجرة”… اللوحات بين الفرادة والاستنساخ الرقمي

منبر العراق الحر :

من الآن فصاعداً لم يعد اقتناء الفنّ حلماً لمحبيه ومتذوقيه من الجيل الجديد، ولم تعد النجوم اللامعة في سماء الفن في لبنان بعيدة من متناول أيدي صغار المُقْتنين. “إهدني شجرة” هو مثال محليّ أو نموذج جديد من المعارض التي تضم أعمالاً فنية مستنسخة ومطبوعة بتقنية “الجيكليه”.

جاء المعرض بتنظيم من Young collector sale، وهي مؤسسة لبنانية ناشئة تمتلك مجموعة من الأعمال لفنانين مشهورين، إضافة إلى أعمال من فناني الجيل الجديد،  تحت شعار “ديوقراطية الفن”، لمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة، بالتعاون مع غاليري جانين ربيز (حتى 7 كانون الثاني/ يناير 2023)، بمشاركة كل من: حسين ماضي، ونبيل نحاس، وهانيبال سروجي، ومحمد الروّاس، (لوحات طباعية) ووسيم السعيدي، ونزار ضاهر، وفتاة بحمد ولوليا (لوحات أصلية).

تثير مسألة انتشار ظاهرة طباعة الأعمال الفنية الباهظة الثمن التي تعود لأسماء فنانين معروفين، بتقينة الجيكليه، أكثر من تساؤل حول مبدأ “الأصالة” التي يتفرد بها عادةً العمل الفني سواء أكان رسماً أم لوحة (مهما اختلفت التقنية)، كقطعة فريدة وهي الميزة التي تفرّقه عن العمل الغرافيكي الطباعي.

فالفرادة لطالما كانت سمة من سمات العمل الفني، وكانت حكراً على النخبة القادرة على الاقتناء، فقدت معناها مع تداول النسخات المطبوعة من الأصل، لا سيما أنها موقعة بإمضاء الفنان، وتباع بأسعار مهاودة كطبعات شعبية على جودة عالية لا يمكن تفريقها عن الأصل إلا بنسبة ضئيلة أو اذا اختلفت أحجامها عن الأصل. السؤال أيضاً يتعلق بعدد النسخ المطبوعة من العمل وسعر كل نسخة وهل يتوافق مع المعايير العالمية أم أنه يتوافق محلياً مع رغبات تجار الفن بموافقة الفنان نفسه أو من ينوب عنه من الورثة أو أصحاب الحقوق من المؤسسات الفنية. والمثير للإعجاب هو قدرة اللبنانين على التكيّف مع الضائقة الاقتصادية والظروف المعيشية الصعبة، والإصرار على الشغف بالفن واقتنائه وتداوله مهما كان الثمن.

في هذا السياق لا بد من الاعتراف بأن تقنيات الاستنساخ وجودة الطباعة الرقمية للعمل الفني في لبنان، قد أفرزت طبقة جديدة من تجار الفن والمقتنين الجدد على السواء، الأمر الذي يتعبر أحد مستجدات التداولات الفنية في السوق المحليّ والعربي في حقبة المعاصرة.

 طباعة الجيكليه بين العالمي والمحليّ

هي ظاهرة غربية بدأت العام 1991 مع عبارة فرنسية giclée أطلقها الفنان الأميركي جاك دوغان وهو حفّار يعمل على المعادن، للإشارة الى مبدأ الطباعة بالحبر على احجام كبيرة. استخدمت هذه التقنية المؤسسات التجارية والإعلانية، ولكنها عرفت رواجها حين طبقت على الأعمال الفنية في طباعة رقمية على القماش، بتقنيات عالية من الجودة لا تفترق عن الأصل إلا باللمسة اللونية، ما ساهم بانتشارها وتطورها في الولايات المتحدة الأميركية، إذ بعدما استنسخت بتقنية الجيكليه أعمال لفنانين عالميين (أمثال دوشان ودالي وبيكاسو…)، قامت عدة متاحف عالمية باعتمادها منها: اللوفر ومعهد شيكاغو للفن والمتحف البريطاني.

لئن كانت هذه الظاهرة خجولة الى حدٍ ما في لبنان، غير أنه تحت شعار “الفن في متناول الجميع”، يتم تداول أعمال فنانين معروفين، هم بالأساس من المؤسسين والمشتغلين بالفنون الطباعية (على وجه الخصوص حسين ماضي ومحمد الروّاس).

في ظل أزمة المصارف وفقدان القدرة الشرائية لدى المتذوقين، تطرح لوحات الجيكليه المستنسخة الحلول البديلة عن الركود الفني، علماً انه يصعب في زمن الفقر اللبناني بيع حتى القطع المستنسخة وإن كانت موقعة من اصحابها ومرقمة.

ولكن من المرجح أن يزداد إقبال الفنانين عليها مع الوقت. فسهولة الاستنساخ تعني أيضاً سهولة التداول، بما يحفز على السؤال إزاء رؤية عمل معلّق في أحد البيوت أو في إحدى المؤسسات الرسمية والخاصة اذا كان عملاً أصلياً ام مستنسحاً. الخشية أن تتحول صفة الاستنساخ بالجيكليه ميزة رفيعة لمن لا تستحق أعمالهم أن تستنسخ، وبالتالي حلول الفوضى في التقييم وفي السوق الفنية على السواء.

عن أحوال الشجرة

لا يبتعد المعرض عن مبتغاه الترفيهي كونه مناسبة سعيدة هدفها إدخال البهجة الى النفوس، ولا عن كونه دعوة للفرح والتّنزه بين أشجار الحقول والحدائق الواقعة بين أعطاف الواقع وأجنحة الخيال، فهو يدعو الى  تأمل الطبيعة، بعيداً من الشجون والضغوطات المادية والمعيشية التي تكتنف حياة اللبنانيين، كي لا يغيب الضوء من عتبات البيوت، ولا يغيب الفرح عن الوجوه التي يغشاها الحزن في موسم العيد وكي تبقى أشجار العيد مكللة بالثلج والهدايا والزينة البراقة من كل صنف ولون.

يحيل عنوان المعرض الى الشجرة، عنواناً وشعاراً للجمال والبهجة وترميزاً الى حضور لبنان بلد الأرز والصفصاف والشربين والسنديان عبر العصور.

إنها الشجرة التي تأوي اليها العصافير في طبيعة خلابة، والمناظر المتنوعة تعكس أساليب الفنانين في تعاطيهم مع هذه التيمة التي لا يخلو منها عمل فني في نتاج الفنانين اللبنانيين على وجه الخصوص مهما اختلفت اتجاهاتهم. ثمة حياة تنبعث من عالم يفيض بالألوان والانغماس بتأويلات الواقع، يجعل العين تنتقل من شجرة الى شجرة اخرى مثل تنقلات العصافير، التي تتراءى في أعمال حسين ماضي، حيث لا الواقع واقعاً ولا الشجرة المعمّرة الممتلئة بالأوراق هي من نسج الخيال، بل هي قريحة الفنان التي تجود بثمارها في كل المواسم، وتملأ كيان اللوحة بالفرح والحب ولذة التمتع بفاكهة اللون الحار النابع من القلب وشهوة الحياة. ولا يمكن المرور أمام لوحة محمد الروّاس من دون أن نتذكر حديقة اسمهان وطيورها الخافقة بملائكة الحب، الذين يضيئون قناديل النهار، وسط أشجار متفرقة ومياه رقراقة ومثل المنام تطل اسمهان جالسة على مقعد في الحديقة بجوار الفيلسوف رولان بارت، والكلام الذي يقال عنهما لا يعدو كونه الحلم الذي يستحيل فناً راقياً مقره في العين والفكر.

لم يكتفِ هنيبعل سروجي باللوحة المطبوعة على القماش بل راح الى ريشته يعمّر حديقته يغرسها باللون ينمق بعض مطارحها ويعيد اليها تفاصيل ما غاب عنها من حكايات السُّحب وطبقات الجنائن والبحيرات اللونية في تأملات ساكنة سلماً وحفاظاً على صفائها الروحاني العميق. في حين أن لوحة نبيل نحاس تحمل الينا مقطعاً مكبراً من شجرة النخيل، يدعونا كي نتلمس لحائها الخشن وتعاريجها في الجذع المتعالي من دون أن نخدش اصابعنا بنتؤاتها، بينما نجد شجرة الأرز في لوحات صغيرة الحجم لنزار ضاهر تقاوم عواصف الشتاء وهي تغيم في ضبابها اللوني بين حرارة الأرض وعصف الرياح صامدة لا تنحني ولكنها تحمل أثراً من الدم والدمع. “لا شيء يكسرنا” هي العبارة الخفية التي كتبها الفنان الفلسطيني وسيم السعيدي في عمله التجريدي الذي يأخذ من الشجرة عصارة ألوانها وبالأخضر السندسي يقول إن ثمة ربيعاً متبسماً آتياً بلا ريب.

لا مجال من الوقوع في أسر الجوقة اللونية المتآلفة على نحو مثير وجميل في لوحات فتاة بحمد، التي تتلمذت في فن المناظر، على يد الفنانة فاطمة الحاج، لذا تبدو مناظر حدائقها ومُتّكآتها المملوءة بالأشجار والنبات والأزهار والرياحين وباقات البنفسج، متأثرة بطريقة ما بنهج استاذتها ومنطقها التلويني، الذي يعتبر مدرسة بحد ذاته. وتلفت في المعرض ايضاً لوحة منظر جميل ممهور بريشة واعدة لفنانة اسمها لوليا.

مها سلطان —النهار العربي

اترك رد