ثقبُ الصريفة…. نعيم عبد مهلهل

منبر العراق الحر :
عندما تحدثتُ عن لحظةِ التربّص لهذا الفايروس المعتوه ” الكورنا ” ورغبته في تهشيمِ نافذة روميو وجوليت في حيٍّ سكني في مدينة فيرونا الإيطالية، كنتُ أتخيلُ مقدارَ الحزنِ الذي سيعودُ ثانية ليكرّر خيبة النهايات الغرامية لحكايات العشق عند كلِّ الشعوب ، وأقصد تلك الحكايات التي تؤسطرها أقلامُ الكتاب أو ألسن الناس ، فأغلبها تنتهي بفاجعة ، فإما أن يموت العاشقُ، أو تموتُ العشيقة، وفي أفضل الأحوال العاشقة تتزوجُ إنساناً غير عشيقها. والسبب دائماً حقد والدِ العشيقة على العشاق ، فيما تكون الأم مُحبّة لعشيقِ ابنتها.
أتذكرُ عندما كنّا في الأهوار ، طلبنا من مديرية التربية نقلَ معلمٍ جانح من مدرستنا لأنه يمارسُ شذوذاً غريباً من خلال عينيه ، فقد راقبه أحد المعلمين وهو يعملُ ثقباً في جدارِ غرفِة الصفِّ، المصنوع من القصبِ، ويراقبُ منه مشية بنات المعدان وهن يعطين لناظرهن ظهورهن لحظة الذهابِ مع جواميسهن إلى مناطقِ قيلولتهن في مياه الهور . كانَ يتلذذُ بالمشهدِ بالرّغم من أنه لا يرضى سوى بقامات نساء حافيات، متحزّمات بعباءاتهن من جهة الخاصرة، يمشين بفطرتهن، ويطلقن المزاح والغناء والقهقهات والعتب فيما بينهن، ولا يعرفن أنَّ متلصصاً كالسارق يتركُ الدرسَ وتلامذته، وينشغل بمراقبةِ البنات ولا يشاهد في ملامحهن شيئاً ، وبالرّغم من هذا كان يتصببُ عرقاً.
أتذكرُ هذا الشذوذ ، وأقارنه بشذوذِ الفايروس النازي وهو يتربصُ للحظةِ الغرام التي كانت طقوسها الليلية تبدأ بعدَ أنْ يهجعَ كلُّ أهل البيت ، فيهمس لها ويعزفُ أناشيد مودّتها لفرحها الرّومانسي بحماسِ عاشقها ، وحين يبدأ الطقسُ الغراميُّ يحرك الفايروس نسمة ريح ملوّثة ويجعلها عطراً من Venezia 1920 هي مجموعة من أربعة عطور من تصميم الأنف العطرية الإيطالي Luca Gritti وهي مستوحاة من أربع مناطق مختلفة في المدينة العائمة Lido, Divine, Oud Royale و Grey Velvet.
كان هذا خداعاً أن يعومَ العطرُ في رئتي العاشقين وهما يشعران بنشوةٍ، ولكنه في الحقيقة كان عدوى حملت فايروس كورونا ونازيته إلى أجمل صدرين للحظاتِ الغرام المقدّس منذ قيصر وكليوباترا، مروراً بعنترة وعبلة وقيس وليلى، وانتهاءً بأجمل أدوار الحبِّ التي قدّمتها هند رستم على شاشة السينما المصرية.
الآن وقد تمَّ عزلُ العاشقين ، وحتماً أحدهما سيتعافى والآخر سيموت ، وفي المحصلة فإنَّ الثاني سيموت لأنَّ روميو لا يمكن أن يعيش بدون جولييت ، وجولييت لا يمكن أن تعيش بدون روميو.
بين الجنوحِ والجموحِ هاجسٌ واحدٌ يصنعُ قلق الكتابة والتفكير الذي يسكنك وأنت تتبعُ مشاعر البشر مع يوم تعتاشُ فيه القنوات التلفازية على احصاء عدد الضحايا والوباء، وأفرحُ بأنَّ القرى التي تعيشُ بسعادة عند عودة المياه إليها في أهوار ميزوبوتاميا لم تسجل أية إصابة بالرّغم من أنها كانت موطناً للملاريا والاسهال الدائم، بسببِ تلوّث المياه وأشياء أخرى. أتذكرُ عندما كنّا معلمين أتت مفرزة علمية من منظمة الصحة العالمية، وأجرت فحصاً ومسحاً لعشرة قرى في أهوار الجبايش ،وفي قريتنا جاء معهم طبيبٌ من أهل مانشستر، سأل إن كان أحدنا يُحسن الانكليزية ، فأجبته :نعم أنا أحسنها، ولكن ليس كما تنطقها أجاثا كريستي .
ضحك وقال لديَّ سؤال : كيف يعيش الناس هنا ؟
قلتُ : إنهم يعيشون هكذا منذ سبعة آلاف عام وأعمارهم قد تصلُ للتسعين .
ابتسم وقالَ : هذا يعني أنَّ الله موجودٌ هنا.

اترك رد