منبر العراق الحر :
في البدءِ كان الصمت.
لا الصمتُ الذي يعني الغياب،
بل الصمتُ الذي تتكوّنُ فيه الكلمة قبل أن تُقال،
وتتشكّلُ فيه الأرواحُ قبل أن تُسَمّى.
هناك، في منطقةٍ لا يصلها الضجيج،
يعيش أولئك الذين يَصغون لما وراء اللغة.
لا يتكلّمون كثيرًا،
لكنّهم يُعيدون تعريف المعنى كلّما نظروا إلى العالم بعينٍ لا تعرف الحُكم،
بل تعرف الحضور.
التوحّد ليس انغلاقًا،
بل انفتاحٌ على مستوى آخر من الفَهم،
حيثُ الأشياءُ لا تُرى بأسمائها،
بل بذبذباتها،
بما تُفصحُ عنهُ حين نكفُّ عن التأويل.
إنهم ليسوا “خارج” الواقع،
بل في عمقه الأكثر نقاءً.
يرون التفاصيل التي نَجت من فوضى الإدراك،
ويتلمّسون نبض الكون من صمتٍ نغفله.
نظراتهم ليست هروبًا من العيون،
بل حمايةٌ من سذاجةِ القراءة السريعة.
وصمتهم ليس فراغًا،
بل امتلاءٌ لا تحتمله اللغة.
نحن الذين نحتاجُ أن نتعلّم منهم الصمت،
أن نتطهّر من عادةِ الكلام،
أن نفهم أنّ الفهمَ لا يتحقّق بالشرح،
بل بالإنصات،
وأنّ الكلمة لا تصيرُ حقيقةً
إلا إذا خرجت من قلبٍ يعرف السكون.
التوحّد — في جوهره — ليس اضطرابًا في التواصل،
بل مرآةٌ لاضطرابِنا نحن،
حين ظننّا أنَّ الإنسانَ يُقاسُ بما يقول،
لا بما يكون.
أولئك الأطفال، اليافعون، الرجال والنساء،
هم شهودُ الله في الأرض،
يُذكّروننا بأنّ الوعي لا يُقاسُ بالقدرة على الكلام،
بل بالقدرة على رؤية ما وراء الكلام.
كم من لغةٍ خرساء أنقذت روحًا،
وكم من جملةٍ فصيحةٍ قتلت معنى.
إنّهم، ببراءتهم المتناهية،
يُعرّون الزيفَ اللغوي فينا،
ويُعيدوننا إلى البدءِ:
إلى النور الأول الذي لا يحتاجُ ترجمة.
حين نجلسُ معهم،
نكتشفُ أنّ الصمت ليس غيابًا عن العالم،
بل عودةٌ إليه.
نكتشفُ أنَّ التوحّد ليس ظِلًّا،
بل شعاعٌ يمرُّ عبرنا ليختبرَ مدى إنسانيتنا.
وللصمتِ فيهم إشراقةٌ تُضيءُ اللغة.
لغةٌ من الضوء لا تُكتَب،
لكنها تُرى في اتّساع العيون،
وفي ارتجافِ الحواسّ أمام الجمال الخالص.
هم — أولئك المختلفون في الإيقاع —
يقيسون العالم بمقاييس القلب،
ويُعيدون إلينا معنى الكمال،
لا كاتساقٍ، بل كتناغمٍ بين الاختلافات.
وحين يُغلقون باب الكلام،
يُفتحُ فينا باب الوعي،
فنُدرك متأخّرين
أنّنا نحنُ الذين كنّا نحيا على هامش الصمت،
بينما هم،
في عُمقِ النور.
منبر العراق الحر منبر العراق الحر