الزمن الضائع بمنفى الغياب…هيفاء البريجاوي

منبر العراق الحر :
بلغةِ الضياع والاغتراب،
نحمل الوطن رسالة أرضًا وترابًا،
تمشي عليها الأحلام، وتتسرّب منها لحظاتُ أمان ، ليس لها حدود زمان ومكان
لتجري السنينُ مهرولةً، تُعادي صحبةَ الوقت المتسرب بين أصابع الزمن الضائع.
فتسيرُ حافيةً على أشواك الخوف،
وتنتزعُ من ألمه جرعةَ صبرٍ ، تكتبه على لوحة الانتماء .
هكذا صدّقت “حياة” واقعها،
حين خطفَ الموتُ منها عائلتَها برصاص صديقٍ،
حطّمَ حاجزَ الضعف،
ونثرَ في روحها شظايا الألم،
لتبلغَ ذروته وتتعلمَ منه النهوض.
تخطّت الوجعَ، وسارعتِ اللحظاتِ بين قلوبٍ غارقةٍ بالتيه،
تفارقُ دفءَ بيتها، وذكرياتُهم لا تزال ساخنةً
على جدرانه المنكوبة،
كتلك الدماء التي اختلطت بعجينٍ مرٍّ
عَثرت عليه بين ركام الضجيج وضياع مفكرةِ الوقت.
آثارُها ما زالت على مائدةِ الزمن، تشهدُ أنّ للألم ذاكرةً لا تموت.
عادت بعد خمسةَ عشرَ عامًا…
لا تدري لأيّ ألمٍ تنتسب،
ولا لأيّ غربةٍ تنتمي.
تمسكُ بعصاها التي رافقتها سنينَ الرحيل،
تتّكئ عليها لتعتدلَ خطواتُها،
وتُبصرَ بقلبها أنّها لن تقع.
كلّما تعثّرت، عاودت النهوض،
وتشتدُّ لهجةُ الحوار، والعتبُ، والتعب،
كأنّ شريطَ الذكرياتِ يعيدُ عرضَ نفسه
على مسرح القلب الذي ما زال يتّسع للأمل.
احتفظت بمشاهد قسوةِ اللحظات،
وبين ذاكرةٍ تنضج فيها الأفكارُ وتختمر،
تسمعُ وشوشاتِ الضياع تُذكّرها بأنّ الشظايا لم تبرأ بعد،فالوجع يملأ سكرات الموت .
فتوقظها من غيبوبةِ الضعف، وتمنحها يقظة الوجود .
كانت “حياة” في طريق عودتها إلى وطنٍ
لا تعلمُ كيف سيحتضنها بترابه وهوائه،
بمواعيد صباحاته وذكرياته،
بشعبه الجريح، وأحلام شبابه الذين التحمت أمانيهم بصديد الغياب .
بطفولته التي لم تكتمل،
وبشيوخه الذين هرمت أقدارُهم.
كلّ تلك الأفكار كانت كأمواجِ بحرٍ مضطرب،
دفعتها لأن تعود إلى تلك البقعة من العالم،
عبر جسورٍ شائكةٍ بدأت عندها قصصٌ مجهولةُ الهوية.
ودّعت هناك قلمَها الباهت اللون،
تزرعه بين خلايا شمسها المسكوبة عليها لحظةَ اللقاء،
حين التقت صدفةً بعينين أبصرتا ما لم يغادرها يومًا،
فصار اللقاء وطنًا، والغربة ميلادًا جديدًا.
عادت مع ذكرياتها لتخبره كم من الوجع
مرّ بها حين افترقا،
لكنّها بروحه تخطّت،
وعادت عروسَ البحار المنكوبة،
على سفينةٍ رمّمت ثقوبها،
وألقت على شراعها فستانَ النهار،
ليشاركها تضاريس الحياة من جديد.
عادت بطفولةِ أحلامها،
تسرد ما حوّلته إلى حقيقة،
وما رافقها من وَهَلِ الضياع،
لتكونَ شديدةً على الوجع، حانيةً لقسوة الأيام،
بلينٍ يرتوي الأمل.
إلى أن وصلت إلى مرفأٍ ما زالت آثاره واضحةَ الخطوط،
تهبطُ الأشواقُ على وجنتيها،
وتزرفُ دموعُ البحار حنينَ اللقاء.
وفي جعبتها أسرارٌ تريد أن ترويها
بين سلاسل المرجان،
خوفًا من أن تمحوَها لحظاتُ البعد والهجر إلى المجهول.
هناك، بين أسرابِ طيور النوارس،
جلستْ برهةً تستريح،
وتستعيد مشاهدَ الأحداث،
فلا حاجةَ لتذاكرِ حضور،
فالكلماتُ كانت حدودًا ومعابر،
أرّخت مشاهدَ الموت للعالم،
وصوّرت شعورًا حقيقيًا من زمنٍ مضى.
استيقظت بعد طولِ رحلة،
تسرد حكايا من سلسلةٍ
تترجمها دراما ألف ليلة وليلة.
بين صفحات الحروف، وجدتْ نفسَها بطلةَ القصة،
والأحداث تدور حولها وحول ما جرى،
بميثاقٍ عربيٍّ مزّق أمواجَ الخوف،
أمسكت لثامَ القوة بحروف الضمير،
وكتبت بصمةَ الروح، ومعنى الحياة،
وعادت بين سنين المهجر ينبوعًا
يسقي أرضَها جداولَ حروفٍ
تملأ القلوب شريانًا ووريدًا،
ودمًا حرًّا يحاور العالم بتتمةِ القصيد،
على ربوعِ براعم ستكون بدايةَ الرحلة
لفتاةِ العرس الجميل.
فالحقولُ زرع،
والميادينُ نداء،
والراوي بطلٌ يهتف:
هنا… عادت للحياة!
وعُدنا بشهامةٍ وكرامة،
لن تُضَيَّع حروفُنا،
فالعنوانُ تاريخُ مجدٍ،
وعراقةُ أمةٍ لا تموت.
الكاتبة هيفاء البريجاوي

اترك رد