القانون يحمي، والدين يلهِم والتربية تصنع : سر ضبط النفس…د. رافد حميد القاضي

منبر العراق الحر :

ان السؤال عن المصدر الحقيقي لضبط الإنسان وجعل أخلاقه حسنة هو من أعقد الأسئلة التي واجهت الفكر الإنساني عبر العصور فهو يمس جوهر العلاقات بين الفرد والمجتمع، ويعكس رؤيتنا لما هو أعظم تأثيرًا في تشكيل السلوك البشري : القانون أم الدين، أم التربية ؟ الحقيقة أن كل عنصر من هذه العناصر له دوره الفعّال، ولكن بدرجات وأسس مختلفة، ولا يمكن تجاهل أي منها إذا أردنا مجتمعًا راقيًا ومستقرًا.

أولًا : القانون كضابط للسلوك.
فالقانون هو الإطار الرسمي الذي تفرضه الدولة لتنظيم سلوك الأفراد وضمان حقوق الجميع، فهو يضع حدودًا واضحة لما يُسمح به وما يُمنع. من خلال العقوبات سواء كانت مالية أو حبسية أو أي نوع من الجزاءات يسعى القانون إلى ردع المخالفين، وبالتالي حماية المجتمع من الانحرافات والسلوكيات الضارة.

والقانون يمتاز بالوضوح والموضوعية؛ إذ لا يُعتمد على إرادة الشخص أو أخلاقه الذاتية، بل على نصوص مكتوبة وموحدة. ومن هنا تأتي قوته في ضبط الناس على نطاق واسع، خاصة في الأمور العملية مثل الجرائم، والتجاوزات، والسرقات والاعتداءات ولكن قوة القانون وحدها لا تكفي لجعل أخلاق الإنسان حسنة؛ فهو قادر على كبح الظاهر من السلوك، لكنه أقل قدرة على تغيير القلب أو تعزيز القيم الداخلية. فالشخص قد يمتنع عن السرقة خوفًا من العقوبة، لكنه قد يظل يغرس في قلبه الرغبة في الخداع أو الغش.

ثانيًا : الدين كمرشد أخلاقي.
ان الدين يلعب دورًا أعمق من القانون في تشكيل الأخلاق لأنه يعالج الإنسان من الداخل، ويقوي ضميره وقيمه الروحية. والدين لا يفرض السلوك بالتهديد بالعقوبة فقط، بل يستنهض النفس على اتباع الفضيلة وحب الخير، ويزرع الخوف من الله والرجاء في رحمته. هذا المزج بين الخوف والأمل يشكل دوافع قوية للتصرف الأخلاقي الصادق، وليس مجرد الامتثال الظاهري.

فالديانات السماوية مثل الإسلام والمسيحية واليهودية وغيرها، تقدم منظومة متكاملة من القيم والمبادئ التي توجه الإنسان نحو الصدق، والأمانة والرحمة، والعدل، والتعاون فالدين لا يقتصر على تنظيم الأفعال فقط، بل يسعى إلى تصحيح النية والهدف، ويعزز مفهوم المسؤولية الشخصية والاجتماعية ومع ذلك، الدين وحده لا يكفي إذا لم يرافقه وعي وتربية، فقد يلتزم بعض الأفراد بتعاليم الدين شكليًا دون أن يترسخ لديهم سلوك أخلاقي حقيقي، خاصة في المجتمعات التي تقل فيها الثقافة الدينية العميقة أو الوعي الروحي.

ثالثًا : التربية كصانع للأخلاق
ان التربية هي العملية الأكثر شمولية في تشكيل الإنسان فهي تبدأ منذ الطفولة وتشمل التنشئة الاجتماعية والثقافية والتعليم، والممارسة اليومية للقيم ومن خلال التربية، يتعلم الإنسان العادات الحميدة ويكتسب القدرة على التمييز بين الخير والشر، ويتطور شعوره بالمسؤولية والانتماء إلى المجتمع.

فالتربية الجيدة لا تكتفي بتلقين قواعد، بل تُنمّي العقل والنفس في آن واحد وإنها تصنع الإنسان الذي يضبط نفسه طواعية ويحب الخير، ويكره الشر، ويتصرف وفق قيم سامية دون الحاجة إلى تهديد أو إكراه. ويمكن القول إن التربية هي العامل الأكثر ديمومة في تكوين الأخلاق، لأنها تتغلغل في الشخصية منذ الصغر، وتشكل وعي الفرد وسلوكه بطريقة طبيعية ومتينة.

ان العلاقة التكاملية بين القانون والدين والتربية إذا تأملنا جيدًا، نجد أن القانون والدين والتربية ليسوا منافسين، بل يكمل بعضهم البعض فالقانون يحد من الانحرافات الظاهرة ويضمن حماية المجتمع، والدين يغرس القيم النبيلة ويقوي الروح، والتربية تضمن استمرارية هذه الأخلاق في العقل والسلوك اليومي للفرد. المجتمعات الناجحة هي تلك التي توفق بين هذه العناصر الثلاثة: قوانين عادلة تُنفذ بصرامة، دين يزرع القيم في النفوس، وتربية فعّالة تبدأ منذ الصغر وتعزز الفضائل في الحياة اليومية.

والمأساة تحدث عندما يُعتمد على عنصر واحد فقط: مجتمع يعتمد على القانون وحده قد يشهد التزامًا شكليًا دون أصالة أخلاقية، مجتمع يعتمد على الدين فقط دون تربية قد يتعرض للسطحية والتناقض ومجتمع يركز على التربية دون قانون قد يفشل في حماية الأفراد من الانحرافات الفعلية

بالتالي فان الخلاصة هو ان الأخلاق الحميدة وضبط السلوك لا يتحقق من خلال عنصر واحد، بل هو نتيجة لتكامل ثلاثي : القانون لضبط المظاهر، والدين لغرس القيم والتربية لتطوير الشخصية. الإنسان يتشكل من الداخل والخارج، ومن الواجب على أي مجتمع يسعى للنهضة والرفعة أن يوازن بين هذه العناصر، فلا قانون يضمن الأخلاق وحده، ولا دين بلا تربية يثمر فضيلة، ولا تربية وحدها تستطيع مواجهة الانحرافات دون إطار قانوني يوجهها.

وإن الإجابة النهائية إذاً ليست اختيار واحدًا، بل فهم العلاقة بين هذه القوى الثلاث وضرورة تكاملها : القانون يمنع الانحراف، والدين يوجه القلب، والتربية تصنع الإنسان الذي يعيش الأخلاق يوميًا كقيمة لا كخوف أو تهديد. وعليه، فإن المجتمعات التي تهتم بهذه العناصر جميعها هي وحدها القادرة على بناء مجتمع راقٍ يحترم حقوق الإنسان، ويعزز العدالة، ويزرع الخير في نفوس أبنائه.

اترك رد