منبر العراق الحر :
مسجدُ عَدّاس الموصلي
أن تكونَ في الطائفِ، ولا تزورُ مسجدَ عداسٍ،
فذلك يُشكِّلُ جُرْحًا بسفرةٍ حاولنا أن نجنيَ
منها، أكثرَ ما يمكنُ تبرُّكًا وثقافةً واطِّلاعًا.
بدأنا نبحثُ عن مسجدِ عدّاس. لم نعرفْ
موقعَهُ بالضَّبطِ، وكلَّما حاولنا، أخطأْنا
الطريقَ، فالمسجدُ غيرُ واضحِ المعالمِ،
ولا يُرى من الطريقِ العام. بعد قليلٍ
من الجَهدِ اهْتديْنا فَمرِرْنا بزُقاقٍ طويلٍ
ضيِّقٍ لا يتسعُ لأكثرَمن شخصٍ واحد.
التفَّ بنا الزُقاقُ بين أشجارِ بساتينِ
المَثناةِ حتى وصلنا.
مسجدُ عدّاسٍ من المساجدِ المشهورةِ في
الطائف، طرازُهُ ونقوشُهُ تتميَّزُ بالروعة
والجَمال. لُقِّبَ بهذا الاسمِ نسبةً إلى غُلامٍ
نصْرانيٍّ من الموصلِ في العراق اسمُهُ
عَدّاس، وهوغلامُ عُتْبَةَ وشيبةَ ولدَيْ ربيعةَ
بنِ عبدِ شمسِ بن عبدِ مَناف.
قصةُ هذا المسجدِ كما تقولُ الرواياتُ، تعودُ
الى الوقت الذي فيه أَوى النبيُّ، مُتعَبًا مُدْمىً
مُتَأَلِّماً مما أصابَهُ من أذى سفهاءِ الطائفِ،
إلى حائطٍ* للأخوين عُتْبَة وشيبة، فجلس
تحت ظلِّ شجرةٍ من عنبٍ، وأخذ يُخاطِبُ
ربَّه بهذه الكلماتِ المؤثرة، وأسوقُها هنا
للاسْتِئْناسِ حسب:
“اللهم إليك أشكو ضَعْفَ قوَّتي، وقِلَّةَ حيلتي،
وهواني على الناس، يا أرحمَ الراحمينَ،
أنت ربُّ المُسْتَضْعَفينَ وأنت ربي، إلى من تَكِلُني؟
إلى بعيدٍ يَتَجَهَّمُني أم إلى عدوٍّ ملَّكْتَه أمري؟
إن لم يكنْ بكَ عليَّ غضبٌ فلا أُبالي،
ولكنَّ عافيَتَك هي أوسعُ لي، أعوذ بنور وجهِكَ
الذي أشرقت لهُ الظُلُماتُ، وصَلُحَ عليه أمرُ
الدنيا والآخرةِ من أن تُنزِلَ بي غضَبَك،
أو يحلَّ عليَّ سخطُك، لك العُتبى حتى ترضى،
ولاحولَ ولاقوةَ إلا بك”.
كلماتٌ كلما قرأتُها أو اسْترْجعْتُها، تحضرني
شخصيةُ الرسولِ المؤيَّدِ من اللهِ، لكنَّه بشرٌ
ضعيفٌ لا مَلجأَ له الا الله فهو ناصرُه.
وهكذا ينبغي لنا ان نكون، حين يدلهِمُّ الخطبُ،
وتقلُّ الحيل، ونشعرُ أَلّا مَفَرَّ من اللهِ إلاّ إليهِ،
ولا راحةَ إلاّ بالإسراعِ إلى ظِلِّهِ،
فلا ظِلَّ ـ قطعاً ـ إلاّ ظِلُّه.
و حين لمحَ ابْنا ربيعةَ النبيَّ على هذه الحال،
تأثَّرا فأرسلا بِقِطْفٍ من عنبٍ مع غلامِهِما
عدّاس. فوجئَ عداسٌ بقولِ النبيِّ (بسم الله)
حين مدَّ يدَهُ الشريفةَ ليتناولَ العنبَ منه.
قال عداسٌ: إنه لكلامٌ غريبٌ لم أسْمَعْهُ من
أهلِ الطائفِ قطُّ! فإذا بالنبي يسألُ عدّاسًا
عن البلدِ الذي جاء منه وبأيِّ دينٍ يُدين،
فأجابَهُ عدّاس: إنَّه نَصْرانيٌّ موصليٌّ من
العراق. فلما سمعَ النبيُّ ذكرَ الموصلِ،
قال له إذَنْ انت (من قريةِ الرجلِ
الصالحِ يونُسَ بنِ مَتَّى؟).
دُهِشَ عدّاسٌ فقال للنبي: ومايُدريك ما
يونسُ بنُ مَتَّى؟ فقال له النبي:
(ذاك أخي كان نبيًّا وأنا نبِيّ).
ثم قرأ عليه قراۤنًا يَحكي قصةَ يونُسَ،
فما كان من عدّاس إلّا أن يُعلنَ إسلامَهُ
في حضرةِ النبي، كما جاء في الأخبار.
حينئذٍ خرج النبي وغادرَ المكانَ.
العودةُ إلى مكة
في طريقنا من الطائف إلى مكةَ،
لم نلقَ أذىً من أحدٍ، وركبنا سيارةً
مُكَيًّفةً مُريحةً، قلتُ في سِرّي:
(فديتك رسولَ الله وانت تقطعُ هذه
المسافاتِ مشيًا على الأَقدامِ، وقد
أُوذيتَ من قومٍ غِلاظٍ لم يفهموك)!
توقَّفْنا في بعض الأماكن، ولأول مرةٍ في
حياتي أرى مجموعةً كثيفةً من قرودِ
البابون، تجوبُ الطريقَ وأحيانًا تقطعُهُ،
فيُطعِمَها المسافرونَ ما عندهم من طعام.
سألتُ صاحبي عن هذه القرود فقال، انها
تعيشُ هكذا على شكلِ مجاميعَ سائبةٍ
في الجبالِ، وتنزلُ بحثًا عن الطَّعام.
ميقاتُ وادي مَحْرَم
في الطريقِ، وعند نزولِنا من جبلِ (كَرا)،
توقفنا عند ميقاتِ وادي مَحْرَم في (الهَدا).
يقع هذا الميقاتُ بين مرتفعاتٍ ومنخفضاتٍ،
وفي واحدٍ من هذه المنخفضاتِ مُدْعَمًا
بحيطانٍ ساندةٍ، فكان موقعُهُ لطيفًا مُطِلًّا على
الوادي المجاورِ، ليكونَ ميقاتًا للقادمينَ
من الطائفِ، ومناطقَ أخرى في جنوبِ
وشرقِ البلاد، بالإضافة إلى الرياض.
لبسْتُ الإحرامَ وصليتُ ركعتين ونويتُ
العمرةَ عن المرحومةِ والدتي وتوكَّلنا.
واصلنا المسيرَ إلى مكةَ حتى إذا وصلنا
إلى الفندق، عادَ صاحبي إلى جَدَّةَ
وذهبتُ الى غُرفتي مُحْرِمًا. استرحْتُ
لبعضِ الوقتِ وذهبتُ إلى المسجدِ الحرام.
كنت مُتعَبًا لذا استأجرتُ أحدَ الأشخاصِ
ممَّن يملكون كراسٍ متحركةً لكي اُنجزَ
الطوافَ والسعيَ اللذين تَتَطلَّبُهُما العُمْرة.
سُرِرْتُ كثيرًا واكتملتْ سعادتي إذ انهيتُ
ثلاثَ عُمْراتٍ: واحدةً لي واثنتين عن
والِدَيَّ رحمهُما الله.
كنت أنوي العمرةَ عن اۤخرينَ لولا الألمُ
الذي ألَمَّ بي، لكنِ الحمدُ للهِ الذي شاءَ
وما شاءَ حصل.
عدتُ إلى الفندق وتحرَّرْتُ من ملابسِ
الإحرامِ وهيأْتُ حقائبي لأُغادرَ هذه الديار
في اليوم التالي عبرَ مطارِ جَدَّة.
اتصلَ بي أبو المحامدِ وقال ان صاحبَه
أبا أحمدَ سيأتيني إلى الفندق في الصباح،
ثم نعرَّجُ إلى بيته في جَدّةَ للذهاب معًا إلى
المطار. فعلا جاءني ابو أحمد مصطحِبًا
ابنَهُ الذي أحببتُه حبًّا جَمًّا لأدبِهِ وسلوكِهِ
وكلامِهِ الذي يوحي أنَّه كلامُ رجالٍ وليس
لفتى بعمره.
ذهبنا الى جَدّةَ وكان أبوالمحامدِ بانْتِظارنا
فاصْطحبناهُ معنا إلى المطار. في مطار جَدّةَ
جاء الفتى معي يساعدني في دفع حقائبي
وحين وصلنا البوّابة، ودَّعْتُهُ ثم عادَ وبقيتُ
أرْقُبُهُ الى ان وصلَ الى أبيه. لوَّحْتُ للجميع
بيديَّ مُوَدِّعًا.
واخيرًا ركبتُ الحافلةَ الى حيثُ الطائرة،
وبذلك انتهت سفرةُ العُمْرةِ هذه، وانا محمَّلُ
بمشاعرِ الحبِّ لما شاهدتُ من أماكنَ
مقدسةٍ، ومن أناسٍ طيِّبينَ لستُ بالقادرِ
أبدًا على شكرِهم، لما أحاطوني به من
إكْرامٍ دلَّ فيما دلَّ، على معادنِهم الأصيلة.
*الحائط هو البستان