قصّة (شيء آخر)…هدى الجلاب

منبر العراق الحر :
كمْ توجعني نظراته القاسية،
يرمقني كأنّني مخلوقة ناقصة، ينظر إلي بعينيه الحادتين بشزر ويطاردني دون كلل، ألا يتعب من الجري؟ لكن لن أكون وجبته السهلة يوماً من الأيام.
بينما يدور رسمه المُخيف في بالها المشغول، يأتيها من وراء ظهرها مُتسللاً على أطراف باردة الخطو، تنتفض خائفة وتسلم لركض عشوائي بين عجلات عابرة.
تسمع صوت فرامل قوية ترتعب أكثر، في بالها الصغير: يا لهذا السريع العملاق لقد أخافني هو الآخر.
تناجي الخالق: يا مَن خلقتني ضعيفة احمني من هذا الكون المُرعب أو اجعل نهايتي مثل المخلوقة العجوز التي ربّتني وعطفت عليّ مثل أمّي.
تتذكر حرفيّاً كيف غُسلت العجوز بالماء المُطيب ولُفّت بغطاء أبيض كبير ثمّ وضعت بصندوق متين ورفعت على عشرات الأيدي ثمّ أخذها بعض الناس ومشوا مرددين: لا إله إلاّ الله.
يتابع شوقها: بعدها لم أرها، متأكدة أنّها في أمان بعد هذا العز، كانت يومها مثل ملكة من ملوك الجان كما حكت العجوز لجارتها الصغيرة عن غِنى عالمهم البديع.
تتخيل بنشوة كيف كانت تسقيها الحليب اللذيذ بزجاجة لها حلمة طرية، تتذكر حلمة والدتها اللحمية الطيبة المذاق، فجأة تعود ذاكرتها ليوم أسود ماتت أمّها تحت دواليب مركبة مُسرعة، كيف صرخت بِلَوعة ولم يعرها أحد المخلوقات اهتمامه، كيف دفعها أحدهم بنعل قدمه الطويلة وأبعدها عن طريق الكائنات القوية التي تتنقل وتسير دون هُدى.
ندى يشوش رؤيتها، تطرق في عين أرض جامدة ثمّ ترفع رأسها لتراه أمام عينيها بلحمه الكثير بلونه الأشقر بأنفاسه المسرعة المسموعة. ينظر دواخل عينيها الزيتونيتين في مُحاولة حوار سلمي فتركض بلا رشاد من جديد.
في باله المضطرب: يا لها من أنثى غبية، لماذا تُعاملني بهذه الطريقة القاسية؟ أنا أُحبّها، تمنّعها وكبريائها يزيداني تعلّقاً فيها.
تتعب من الركض، تقف برهة تحت ظلّ شجيرة في حديقة حلوة، تتمدد بغنج ودلال فوق العشب تحت أشعة شمس خريفية الطلعة تتسلل أصابعها بخفة من بين أغصان مُتقاربة،
لتبعث لمعة هادئة في سطوح المرج وبعض الدفء في أوصالها المُرتجفة، تنظر إلى روعة جمال المنظر فتقول: يا ليت كُنت نباتية لآكل كلّ هذا العشب المُمتد على طول النظر، مثل المخلوق السمين صاحب الصوف الأبيض.
تتراجع أمنيتها خطوات إلى الوراء عندما تتخيل اللحام صاحب السكين المخيفة كيف ذبح مخلوقاً يشبهه: لماذا عامله الإنسان الضخم بقسوة في ذاك اليوم، ترى لأنه يقضي على العشب؟
تنفض رأسها برعب: لا أرغب بأكل نباتات الأرض السخيفة، مُتأكدة طعمها مُقرف.
بعد ساعة مُحيرة لا تدري أ تبقى هُنا وتستوطن حضن هذا المكان البديع أو تهاجر إلى ملاذ بعيد عن المخلوقات التي ترعبها. يطرق باب خيالها المطارد الذي لا يعرف التعب: لا أرغب في رؤيته أمام عينيّ، المُتغطرس لا يكف عن مضايقتي، لماذا لا يتركني أعيش بسلام؟
تتابع سير أفكارها: سأذهب إلى مكان لا يجدني فيه، لو أعرف أين ذهبت العجوز الطيبة كي ألجأ إليها وحدها قادرة على حمايتي من غرابة هذا العالم الكبير.
تشعر بعراك شديد داخل أحشائها الفارغة فتعرف السبب: هو الجوع، الحقير بدأ يؤلم معدتي، منذ يومين لم أتناول شيئاً يُذكَر.
تسير ببطء باحثة بين أعشاب الأرض عن شيء يرد عنها الصراع العنيف، لا تجد شيئاً فتصادف عامل قمامة بيده كيس مُتخمة برائحة تجذبها بجنون، تقترب منه مُستعطفة فيتجاهلها مثل بقية الأشخاص الذين يعبرون دون اكتراث لمعاناتها.
تسير بخطوات بليدة نحو مصير مرسوم، بعد ساعات موجِعة ينهار جسدها النحيل في حضرة غياب الرحمة من صدور قاسية الضلوع قليلة العطاء. تنطوي على جسمها الرقيق كي لا تشعر بالجوع اللئيم. ترقد بلا حول ولا قوّة، يرسل الخالق لها فتى في العاشرة من عمره تقريباً، يحملها برفق فتبتسم في وجهه الأسمر الناعم وتقول شاكرة: مياو.
وتغفو بأمان بين يديه الصغيرتين لتصحو على ملامسته وبرها الأبيض المُنقط ببقع سوداء لامعة. ترى أمامها قطعة مرتديلا كبيرة تكفيها مدة يومين.
تأكل بشهية وصمت، تتفحص ملامحه بهدوء وهي تدعو بداخلها لهذا المخلوق اللطيف الذي شعر بحاجتها للعون.
تسمع صراخاً فظيعاً من وراءها فترتجف أوصالها، أمّه كما بدا غاضبة. – هل جلبتها من الشارع، كمْ هي وسخة؟ ستنقل لنا ألف مرض.
تدفعها بقدمها الطويلة السمينة تجاه الباب الخارجي، يستوقفها مُترجياً: سآخذها إلى طبيب بيطري يا ماما قرب دوار المطار ليعطيها اللقاح اللازم مثل بيت جيراننا أبو سمير، لن تؤذي بعدها صدقيني.
يسكت ويردف: انظري إلى عينيها كم هي حلوة ودودة.
– سيتسخ أثاث البيت، أنا أشمئز من رائحة الحيوانات.
يبكي بحرقة وهو يُغلق بصيص الأمل في وجهها.
تقول مُتأسفة على حالها: أنا وسخة؟ كلّ يوم ألعق وبري ساعات طويلة حتى طرف ذيلي أبيض من وجهها الملوّن.
يائسة تتابع سير قدرها: لكن لا أمل لي بوجبة ثانية في حضن هذا المكان الهادئ. بقناعة: حين أجوع ثانية سأجد ما أسد فيه فراغ هذه البطن التي لا تشبع. تنظر إلى الباب الخشبي المزخرف الذي ارتاحت خلفه لحظات هانئة من الركض والعناء. – شكراً أيّها الحلو الصغير على كلّ شيء.
تمشي حائرة في اتجاهات مختلفة، يشدّها مغناطيس الحنين إلى المكان الذي ترعرعت فيه، فترى نفسها راغبة تسحبها دون شعور، نحو رائحة أيام غابرة ربّما تحظى برؤية العجوز العطوفة أو إخوتها الذين سرقتهم الأيام. في بالها: سأعرف أخي من الشامة الكبيرة بين عينيه وأختي من عينيها، أذكر لها عين زرقاء والثانية خضراء ومن رائحة الدم أيضاً فالأخوة لا يضيع أحدهم عن الآخر كمَا أخبرتني أمّي قبل رحيلها.
بعد تشرد يومين، تشدّها وتغريها غرفة كبيرة من غرف الطعام الخضراء المفتوحة المنتشرة في هذا الحي الشعبي المُتخم بالهموم والخلق: عودتني العجوز على طعام طيب لكن الجوع قاتل.
تشمّ بعمق: لكن هذه الرائحة رائعة تنعش الفؤاد.
تقفز إلى طرف الحاوية دون تردد لترى بقايا لحم دجاج تناديها بإغراء، ترمي جسدها على الفور فوق أكوام الطعام لتأكل بكلّ ما فيها من شهيّة، تأتي سيارة كبيرة لتقلبها وتبتلعها دفعة واحدة، لترى في الداخل طعاماً كثيراً يكفيها إلى الأبد.
تنغلق فتحة الضوء، يغدو المكان بارداً مُعتماً، تحدث روحها: لن يزعجني القط السمين هُنا وهذا الطعام يكفي إلى ما شاء الله.
تأكل حتى التخمة. تحاول النوم بأمان فوق الأكوام الزاخرة بالمأكولات، تستيقظ على أكياس كبيرة تُرمى فوق جسدها مثل زخ المطر، يطرق رأسها بقايا مرآة مكسورة، يغشى عليها لتصحو بعد حين على لهب نار قوية تحيطها من جميع الجهات، فتركض هاربة مذعورة من المكان الغريب.
يحترق طرف ذيلها الأبيض الطويل، تصرخ ولا أحد حولها يعيرها اهتمامه، بلحظة يمسح وبرها الذي تآكل بعضه بفعل وهج نار جشعة غبية، لا تميز بين الأحياء والجماد.
تفكر بقوّة وحزم مما لاقت من شدة: سأعود إلى وطني الذي عشت فيه وإذا طاردني ذاك الحقير سأنقضّ عليه سأُجرّحه بمخالبي التي أراها تطول هذه الأيام.
بحزم: الحل الوحيد أن أواجهه وجهاً لوجه، بعد الآن لن أتهاون مع أحد، لن أسمح لأحد بسرقة موطني منّي لأهرب مثل فأرة، سأُعلّم من يقترب منّي درساً في الأدب لن ينساه.
تمشي وتخطط مُدبرة أشد أنواع الانتقام لمن سيقف حجر عثرة في دربها.
على الطريق الطويلة، تتذكر طعم فأرة رمادية أحضرتها أمّها حين فطمتها عن الحليب كي تعلمها فن الصيد. في بالها تتساءل: أين اختفت الفئران اللذيذة التي كانت تجلبها أمّي بمهارة؟ عناية العجوز أنستني تلك الأمور.
وتحلم راغبة: يا ليت أعيش وسط مملكة كبيرة مليئة بالجرذان المُمتلئة، آكل ما أرغب وأطارد البقية بمرح حين أشتهي اللهو واللعب.
تتخيل كيف يرعبها القط السمين، تشعر بقشعريرة فتغير محطة تفكيرها: لا أرغب أن أكون عدوانية، أرغب بطعام جاهز يشبه الذي كنت أتناوله في السابق أو كتلك القطعة الحمراء المستديرة التي أطعمني إياها الصغير التي تشبه القرص الكبير الذي يلمع في الأفق البعيد قبل أن يهجم السواد المخيف.
بعد تعب ثلاثة أيام، تقف بفرح كبير على رصيف دمشقي عريض لشارع طويل مُحاط بأشجار ترفع أغصانها بشموخ وكبرياء، تهز ذيلها المحروق بنصر، تسحب أنفاسها بعمق لتشم رائحة الوطن الجميل: ما أجمل العودة إلى الوطن، هنا بيت العجوز.
تطرق في الأرض حزينة: ماذا سأفعل إذا كان باب بيتها ما زال مسدوداً؟ يا ليت أستطيع الطيران مثل الأسراب التي تشدني إلى السماء، لطرت ونزلت أرض ديارها وجلست في مكاني المُفضل تحت قدميها.
قبل ولوجها (بوووف) تسمع صوت انفجار قوي يُرعبها الصوت المُزعج، يهز أوصالها فتركض فزعة تقطع الشارع وتختبئ للحظات وراء جدار إسمنتي عال.
على بُعد تراقب أوضاع الحي الجميل، بحذر، تأتي سيارات الإطفاء والإسعاف لتزيد توتر أعصابها: لا أعرف سبب هذا الضجيج المجنون؟ مطاردة القط السمين أهون مما يحصل.
عند ذكره، تراه يتمشى أمامها بلحمه الوفير ووبره الأشقر الذي بدا وسخاً هذه المرّة على غير العادة، تشد عزمها وتستعد للقتال الشرس، في رأسها: لن أرحمه هذه المرّة.
يمشي ببرود عجيب: لقد خاف منّي كمَا يبدو لأنّني تحديته بصمودي، كم كنت غبية حين كنت أهرب مثل فأرة تافهة.
يقع تحت قدميها. يتمدد فوق الأرض.
تشاهد دمه يغادر جسده. تتذكر أمّها بعد الحادث الأليم، نفس اللون عبر جسدها وملأ فسحة من الأرض، صاحب الصوف أيضاً عندما ذبحه الجزّار، الفأرة لها لون السائل الأحمر ذاته أيضاً. تسأل ذاتها بغرابة: لماذا علمتني أمّي التقاط الفئران؟ لا أريد أكل الفئران بعد اليوم.
تنتبه لصوت آلامه. تستغرب ما صار عليه. تجلس قربه تراقبه يحتضر دون أن تعرف حقيقة أمره، تدخل رُبا عينيه اللتين بدتا أصغر بكثير عن ذي قبل، تلج سهول حب وحنان فياضة.
شيء آخر مُجسّد أمام ناظريها يختلف كثيراً عمّا رسمته مخيلتها الضعيفة، تلعق جبينه بلغة عشقها، يبتسم لها بود كبير والحسرة تأكله. تدعوه إلى نُزهة رومانسية في الحديقة القريبة على طريق المطار ليكون رفيق مشوار حياتها منذ اليوم، تدمع عيناه عشقاً، يهمد ويغمض مُجبراً. لم تستطيع رؤية شظية عمياء سكنت أحشاءه من جراء الانفجار الضخم الذي دوى في مكان ولادتها قبل وصولها بثوان. ترمقه يائسة ثمّ تبدأ بلحس وبره المُعفر في مُحاولة لإيقاظه، تفشل لترتمي جانبه خرقة بالية.
تنظر حولها باستغراب، ترى الطيور التي كانت تطير قبل قليل أشلاء ممزقة في كل مكان.
تمرّ لحظات جامدة تفطر قلبها المذبوح، يأتي نحوها رجُل عجوز مُغبّر الثياب، يشحط قدماً نازفة، يحملها بإنسانية بني آدم قائلاً: حتى أنتِ تضررت من فعل هذه الحرب الغريبة يا مخلوقة الله؟
لا تفهم قصده بالضبط لكنّها ترتاح لملامحه الطيبة، تهز ذيلها موافقة، تستسلم راغبة مرافقته الدرب، لعلّ الأيام تضحك لها من جديد. تتذكر كيف حملتها العجوز بعد موت أمّها بنفس الروح، ضمن رأسها: لا يشبه العجوز التي ربّتني في شيء إلاّ في لمسات يديه المفعمة بالطيب.
بين يديه تشمّ عبق ذكرى الماضي، فتلحس أصابع يديه الخشنة، شاكرة وده.
يتمتم كلمات لا تستوعبها جيداً وهو يعرج بمشيته البطيئة.
بعد مسافة أمتار لا يطاوعها قلبها أن تترك القط السمين بارداً وحيداً بين التراب لتنعم وحدها بالدفء والطعام ،
و تقفز إلى سطح الأرض لتعود إليه راكضة ملهوفة.
..
.. هدى محمد وجيه الجلاب ..

اترك رد