بيوت الصفيح …..كريم خلف الغالبي

منبر العراق الحر :
دعيَ إلى طاولة مستديرة ، لا ليشارك في اجتماع هام يقرر فيه مصير شعب أنهكته الحروب ، ولا للتداول في إدارة مؤسسة تجارية ، حكومية كانت أم أهلية ، إنما ليرفع من على سطح الطاولة بقايا طعام من لحوم متنوعة وأصناف لم يرها يوما ما في حياته ، فواكه طازجة لم تأت أكلها بعد ، تركت للنصف أو دون ذلك ، قنانٍ نصفها فارغ ومياه معدنية معبأة بعلب بلاستيكية عليها ماركة مكتوبة بحروف أجنبية تشير إلى شركة بلا هوية ، الصالة مزججة بمرايا تعكس وجوه الناظرين لها ، توهمهم وكأنهم جالسين في فضاء خارجي لولا الأضواء الملونة المتراقصة التي أشعرته بالدوار ، فصوت الموسيقى الذي يخرج هادئا من جميع الجدران في تلك الصالة يتناغم مع تلك الأضواء ، يبعث في النفوس أحلاما لا تطرق أبواب الفقراء ، يتساءل مع نفسه ، بماذا يحلمون هؤلاء ؟ وهم يرفلون بالدمقس والحرير ، ويضاجعون من النساء كل يوم شهرزاد ، شهرزاد التي تنتهي حكايتها قبل طلوع الفجر كي لا ترى نفسها بعد الطلوع ، لا يحتاجون لان يطلّوا من النوافذ كي ينظروا إلى القمر ، هاهو يتدلى خلف أستار غرف النوم التي تتقلب أضواؤها مع كل وضع ينتابهم في المنام ، لاشك أنهم يستطيعون أن يبتروا خيوط الشمس قبل ان تلهب وجوههم .
ينظر بعينيه إلى زوجة صاحب الدار وهي تنزل أو تصعد بسيارتها من خلف أغصان الشجيرات التي يقوم بتقليمها كي يرسم أشكالا هندسية ورؤوسا لأجساد أدمية ، وعندما لا تطاوعه أوراق الشجر ، عليه أن ينتظر أياما من الجمر التي تلسع راحة يديه وتحرق باطن قدميه وهو يسمع كلمات التحذير والتنبيه من عينيها الجريئتين اللتين تشبهان عيون قط بري ، رذاذ الماء الذي يسقي به حديقة منزلهم لا ينعش قلب ماكينة سيارتها الفارهة ، وعليه أن يمنع ذلك الرذاذ كي لا يقطر على أبواب وسطح تلك السيارة ، فالسيدة لا يروق لها أن تمتد يديه لملامسة زجاجها وهو يمسحها بقطعة بيضاء لحظة صعودها السيارة ، كم مرة حدثته نفسه أن يعيد للتاريخ تلك القصة العظيمة ( الجريمة والعقاب) فهو يعلم الأسباب التي دفعت ذلك البطل لارتكابها لكنه لم يحسب ما ناله من عقاب بعد وقوعها فكيف له أن يقوم هو بالجريمة ، وقد أخبرته القصة بذلك العقاب المرير ، يرتد طرفه حاسرا عندما يرى معصميها تسّوره أساورٌ من ذهب ، ترصعها قطع من الماس والزمرد والياقوت .
يعود لأهله مكظوما من الغيظ وهو يحمل لأولاده الصغار بقايا ذلك الطعام ، سقوف بيته من الصفيح لا تقيهم حر الصيف ولا برد الشتاء ، ولده الأكبر اضطر للالتحاق بالجيش الذي يطهر جيوب المدن من سيطرة عصابات إرهابية ، إرهابيون جاءوا من خلف الأسوار ليسرقوا أموال الشعب ويهتكوا ستر العرض ، جاءوا ليدنسوا مقدسات هذا الوطن ، خطابات ألهبت شعورهم وأيقظت إحساسهم وثارت نخوتهم ، فلم يهنأ لذلك الصبي منام ، استرخص من أبويه وسكن البيداء ، ماسكا بندقيته ليل نهار ، تاركا أباه يبحث عن لقمة عيش حتى رمته الأيام في حديقة ذلك المنزل ، جلس على أريكة مصنوعة من خشب صنوبري تلامس قدماه الأرض ، سارحا خياله فيما يدور من حواليه ، صاحب المنزل كل يوم يكنز الأموال والمجوهرات … في غفلة من لحظة عندما كان ينظر بعينيه من خلف زجاج النوافذ ، ينتظرهم كي يشيرون إليه بالدخول ليقوم بعمله وهو ينظف تلك الطاولة المستديرة ليأخذ ما تبقى إلى عياله الذين ينتظرون وجبتهم الدسمة قبل أن يخلدوا إلى النوم ، خرج صاحب الدار مصطحبا صديقين له ، وقفوا بالقرب منه دون أن يشعروا بوجوده ، سمعهم يتحدثون عما جرى وما يجري ، ينتقدون ما لا يناسبهم ويلصقون التهم بأسماء أشخاص ملَّ سماع خطابهم وسئم ملامح وجوههم ، لكن سهما أصاب كبده عندما سمع صاحب الدار يقول ( دعونا نعيش في مأمن عما يجري فللوطن أولادٌ تحميه تخرج من بيوت الصفيح ) .
٦

اترك رد