إنتفاضة الأقصى إلى أين ؟ . د . أنور ساطع أصفري .

منبر العراق الحر :
الشعب العربي على إمتداد الساحة العربية المترامية الأطراف ، وقف ويقف مع الشعب الفلسطيني ، ومع الأحداث الدامية التي جرت وتجري في قطاع غزّة وعليه ، ومع الواقع الإنساني المتردي هناك نتيجة نتيجة الإجرام المتواصل لقوات الإحتلال في الميدان .
وها قد مضت أسابيع على أحداث غزّة ، ومع مستجداتها تفكّر قوات الاحتلال بإجتياح قطاع غزّة ، وتفريغ نصفه الشمالي كي تُقام عليه وفي جواره مستوطنات إسرائيلية لتكون بمثابة حزام أمان لدولةِ الاحتلال ، ولهذا تقوم القوات الإسرائيلية وبشكلٍ متسارع قصف غزة وتدميرها ، وقتل أبنائها ، وتفريغ أرضها من الإنسان المقاوم ، وتركت لهم بل نصحتهم بالتوجّه نحو الجنوب .
وحينما تتمكن إسرائيل من تفريغ نصف القطاع الشمالي ستكون هذه المساحة هي الأرض التي ستمر عليها قناة بن جوريون ، التي ستكون المنافسة لقناة السويس بل البديل لها .
ولقد بلغت خسارة إسرائيل لغاية الآن نتيجة حربها مع غزة هي أضعاف خسارتها في حرب لبنان عام 2006 بثلاث مرات ، والتي استمرت مع حزب الله 34 يوماً .
كما خسرت إسرائيل خلال هذه الحرب 45 مليار دولار ، وهذا يشمل خسائر القطاعات الاقتصادية ، ويُقدّر أن تكون خسائر سوق العمل الاسرائيلي اسبوعياً 5 مليار شيكل أي ما يعادل 1,3 مليار دولار ، كما هبطت قيمة الشيكل بنسبة 10% ، إضافة الى الانكماش الاقتصادي بنسبة 20%، وعجز بالموازنة العامة بنسبة 25 مليار دولار .
وخسائر اسرائيل العسكرية تفوق خسائرها في حرب 1973، وبلغ عدد القتلى الاسرائيليين حوالي 2100 قتيل ، بينهم 350 من الجنود ، وعدد من الجرحى يُقدّرون بحوالي 6000 جريح ، إضافة إلى سقوط 250 أسير إسرائيلي بيد المقاومة الفلسطينية ، ولقد قتل منهم لغاية الآن 25 أسير بسبب القصف العشوائي من قبل إسرائيل .
كما أن هناك أضرار مادية بالمستوطنات الاسرائيلية من خلال قصف المقاومة لها ، كما تم تدمير العديد من الدبابات والعربات العسكرية الاسرائيلية .
الجميع يعلم كيف خسرت أمريكا حربها مع فييتنام ، وكيف اضطرّت تحت حجم هجمات الفيتناميين وفي كل مكان وتكبيدها خسائر كبيرة ، على الانسحاب من فييتنام عام 1975 ، لعدم قدرتها على الاستمرار .
الفيتناميون استخدموا اسلوب الشوارع والأنفاق في حربهم مع أمريكا ، وانتصروا عليها ، لأن الأمريكان لم يعد باستطاعتهم تقدير من أين يأتيهم الهجوم . الآن ما يحدث في إسرائيل وغزة متشابه تماماً مع ما حدث لأمريكا في فييتنام ، بل أكثر تعقيداً ، فغزة مليئة بالأنفاق وفي كل إتجاه ، ومن المؤكّد أن أبناء غزة سيستخدمون هذه الأنفاق وبالتالي إنهاك جيش العدو الإسرائيلي ، وتكبيده خسائر فادحة .
حيث أن أنفاق غزّة تمتد لمسافة 42 كيلومتراً طولاً ، و11 كيلومتراً عرضاً ، والجميع الآن أقصد أصحاب القضية والمتابعين أن إسرائيل وجيشها لا يستطيع الاستمرار في حرب الشوارع والانفاق في غزة ، والتي ستكون بمثابة اليوم الأسود لجيش الإحتلال .
آخذين بعين الإعتبار بأن غزة تمتلك الآن أسلحة حديثة نوعاً ما أكثر من ذي قبل ، حيث أنها فاجأت الجميع حتّى الإسرائيليين ، منها طائرات مُسيّرة صناعة محليّة وطائرات شراعية ، استطاعت حمل المقاتلين الفلسطينيين لمسافة 30 كيلومتراً في عمق المدن والبلدات الإسرائيلية ، وقنابل حارقة استطاعت تدمير آليات ودبابات إسرائيلية ، وصواريخ وصلت إلى تل أبيب ، إضافة إلى منظومة دفاعٍ جوي محلية الصنع .
صحيح أن إسرائيل تؤكّد بأن عمليتها في غزة ستكون لا مثيل لها في ضراوتها ، وقامت وزارة الدفاع باستدعاء قسم كبير من قوات الاحتياط بلغ حوالي 350 ألف عنصر . كما قاموا بتنفيذ خططهم بتدمير البنية التحتية لقطاع غزة .
ولكن ولغاية الآن وبكلِ تأكيد أن قوات الإحتلال ليس لديها الرؤية الواضحة عمّا ستؤول إليه الأمور بعد بدء عملية الحرب البرية لقطاع غزة .
حتّى رئيس مكتب الأمن القومي الاسرائيلي قال لا نعرف على وجه اليقين كيف سيكون الوضع بعد بدء الاجتياح .
ويرى الاسرائيليون أن ما كان يُستخدم سابقاً في غزة ، لم يعد يفي بالغرض ، في نظرهم ، فهم يملكون الآن غضباً واسع النطاق ، ممّا فعلته غزة في السابع من اكتوبر ، وكبّدتهم خسائر كبيرة في الأرواح وكذلك الجرحى والأسرى والمعدات العسكرية .
إسرائيل الآن لا تفكر بالمناوشات مع غزة ، أو تدمير بنيتها التحتية ، بل يفكرون بتدمير كل ما يتعلق بصلة مع حماس وسواها من منظمات المقاومة فيها .
غزّة صامدة وتُقاوم رغم إرتقاء حوالي 14000 شهيد ، منهم حوالي 5000 طفل ، خلال 32 مجزرة خلال الحرب الأخيرة ، وغالبيتهم من النازحين إلى جنوب غزّة ، كما تكبّدت غزّة خروج 27 مستشفى عن الخدمة بعد تكرار القصف الإسرائيلي ، كما استهدفت إسرائيل 60 مؤسسة صحية في قطاع غزّة .
إضافة إلى نزوح حوالي 300 ألف مواطن في غزّة من منازلهم .
والقصف العشوائي الإسرائيلي أدّى إلى تدمير 2000 وحدة سكنية ، حيث يعيش الآن حوالي 175000 فلسطيني في 85 مدرسة تابعة لمنظمة الأونروا .
وبنفس الوقت الكثير من الإسرائيليين تنتابهم مخاوف فعلية لإدراكهم بأن حماس مغروسة بشكلٍ واسع في قطاع غزة ، وفصلها عن القطاع أوالقضية واجتثاثها هي مهمة أشبه بالمستحيلة .
مع الأخذ بعين الاعتبار بأن الضفة الغربية المحتلة هي جبهة أخرى قد تُفتح في وجه قوات الاحتلال .
كما أن موقف السلطة الفلسطينية الذي يحدّ من نهج المقاومة لارتباطها باتفاقيات بينها وبين إسرائيل ، صحيح أن السلطة الفلسطينية نددت بالهجوم على غزة ، لكنها بنفس الوقت تمنع المظاهرات المؤيدة لغزة ، ولن تسمح بالمقاومة المسلحة ، وإذا سمحت السلطة بالمظاهرات في رام الله على سبيل المثال ، ممكن أن تتحول من مظاهرات بالمئآت إلى مظاهرات بعشرات الآلاف ، وهذا لا يتلائم ولا يتوافق مع نهجها .
فهناك منظومة لديها مصالح ومكاسب شخصية لا تريد التفريط بها ، وتحرص على الحفاظ عليها وبها ، وإذا إهتزّت قبضة السلطة في رام الله ، فإن الوضع هناك سيتدهور وسيقف الفلسطينيون إلى جانب غزة بكل قواهم ، وبالتالي يتلاشى الهدوء مع اسرائيل الذي تحافظ عليه السلطة ،
وبالمحصّلة فإن إقتحام غزة من قبل إسرائيل قد يُحوّل الصراع من صراع إسرائيلي غزّاوي ، إلى صراع إقليمي مفتوح .
ومن الواضح ولغاية الآن أن مشاعر الشعوب العربية والتركية والإيرانية وحزب الله هي مع أهالي غزة ، وكلهم يشجبون العمل الإجرامي الصهيوني على غزة ، وينددون بالقصف المتوالي عليها ، الذي يُدمّر ويقتل الأبرياء من نساءٍ وأطفال وكهلة .
وهذه الأطراف المذكورة هل ستبقى على حالها تشجب وتقلق وتحتج ، أم سيكون هناك مشاركة فعلية من حكومات هذه الشعوب للوقوف فعلياً مع القضية الفلسطينية وقطاع غزة ، لا أحد يدري .
كثيرون يستبعدون أن تكون هناك أي مشاركة من الحكومات العربية التي ستكتفي بالاحتجاج والشجب والمؤازرة الإعلامية الرخيصة .
والشيء الوحيد الذي سيتصاعد هو الغضب الجماهيري العربي والدولي ضد جرائم دولة الاحتلال ، وهذا كله هو بمثابة دعمٍ معنوي ليس إلاّ .
وبكل جدّية تفكر إسرائيل بمخاطر قد تخترقها إن كانت عبر البحر الأحمر أو البحر الأبيض المتوسط أو عبر لبنان وسورية ومصر والاردن والعراق ، ومن خلفهم أيضاً روسيا وإيران والصين ، صحيح هذه الجبهات صامتة الآن ، ولكن لا أحد يمكنه التخمين ماذا سيحدث لو تطورت الأمور سريعاً نحو الأسوأ وخرجت عن السيطرة .
لحرب المدن أبجديات عسكرية خاصة بها ، وليست كل الجيوش قادرة على سلوك هكذا درب ، المليء بالمفاجآت وبالكتل الانتحارية ، وبالقنص المفاجىء ،
فهذه الحرب ستضع الجيش الاسرائيلي على مفترق طرق ، وأمام إمتحانٍ صعب ، لأنها ستكون حرباً قاسية ، يجب أن يتم تناولها بكل حذر ، وقطعاً ستكون أشد عنفاً من المحاولتين السابقتين من قبل إسرائيل ، الأولى عام 2009 واستمرت 15 يوماً ، والثانية عام 2014 واستغرقت 35 يوماً .
فبكلِ لهجات العالم إن حرب المدن قولاً واحداً تتّسم بالفوضى و بالفلتان الأمني ، وعدم دقة الحسابات والمجريات والنتائج .
كلٌّ منّا يروم إلى الأمن والسلام ، وبكل تأكيد لو تمّ تنفيذ قرارات مجلس الأمن والأمم المتحدة التي نصّت على حل القضية الفلسطينية من خلال قرار حل الدولتين ، ذات سيادة على الأرض لأنتهت الأمور واستقرت منذ ذلك الوقت ، واستقامت الأمور في الميدان .
لكن تجاهل وتعنت إسرائيل لهذه القرارات وإصرارها على الاستمرار بسياستها التوسعية والقمعية ، خلق وسيخلق باستمرار تنظيمات مسلحة تقاوم الاحتلال وتناضل من أجل تحرير ترابها من المحتل ، والعيش بسلام ، وهذا قطعاً مطلب محق لشعبٍ يعاني من الإحتلال .
ولقد علّمنا التاريخ أن الإحتلال من المستحيل أن يستمر ، وأن النصر دوماً لإرادةِ الشعوب .
كلهم يُراهنون على غياب العمل العربي المشترك ، وكلهم يخافون من صحوة عربية ، ومن موقف عربي مشترك ، يُلمّلم الأشلاء العربية المتناثرة التي تُثير شهيّة كلّ من به طمع لإستباحةِ هذه الأمة والعبث بها .
وإسرائيل تُدرك تماماً بأنها ستبقى غريبة ومنبوذة من المحيط حولها ، وأنه لا بُدّ لها من إستقطاب بعض الدول العربية لتقف إلى جانبها ، أو على الأقل أن تكون محايدة معها .
النوايا الصهيونية والأمريكية والأوروبية واضحةٌ تماماً أمام كل العرب ، ومع ذلك نجاملهم ، نُقدّم لهم باقات الورود ، ننحني لهم إحتراماً ، إنه الزيف السياسي العربي ، فنحن بعيدون عن الواقع الذي يُداهمنا ، بعيدون عن الخطر الذي يُداهم حتّى هويتنا ، بعيدون عن النوايا الشريرة لقراصنة هذا القرن ، ولا غرو في ذلك ، لأننا بعيدون عن أنفسنا ومنقسمون على أنفسنا .
إن أحلامنا تتناثر في أزمة التاريخ ، وتتبعثر في انعكاسات الرؤية التي تشرخ الجبين العربي ، فنحن مخدوعون حتّى بانهزاماتنا ونبررها كما يحلو لنا ويروق ، مخدوعون بالازدواجية المشرّشة في أصولنا لدرجة السقوط ، مخدوعون حتّى في نظرات أطفالنا إلينا ! .
إننا مدعوّون مع إنتفاضة الأقصى أكثر من أي وقت مضى إلى وقفة عربية يهيمن عليها التضامن العربي الصادق ، لنكون على مستوى يليق بالأحداث التي تحيط بالأمّة .
مُطالبون بولادةٍ عربية جديدة ، تُمثّل صحوة الضمير العربي القومي مع إنتفاضة الأقصى ، قبل فوات الأوان ، وقبل أن نجد أنفسنا محاصرين من جهاتنا الأربع ، ونفقد غشاء بكارة هذه الأمّة المترامية الأطراف ، ونحن ننزف اللغة والتاريخ والأرض .
إنتفاضة الأقصى تستصرخكم أيها العرب ، وعليكم التفكير والتمعّن جيداً ، ماذا بعد غزّة ؟! .
نخشى أن تغرق السفينة بمن فيها ، إلاّ غزّة المقاومة والصمود والشموخ .

اترك رد