منبر العراق الحر :
باتت حكومة السوداني تترنح بين ضربات المليشيات وضربات القوات الامريكية. الحكومة التي شكلتها المليشيات، ورضت عنها السفيرة الامريكية في بغداد ايلينا رومانسكي، ووصفت الوضع في العراق حينها في جلسة استماع أمام الكونغرس الأمريكي في أيار من العام الماضي؛ بأن كل شيء مستتب ومستقر والأوضاع هادئة وتسير الرياح بما تشتهي السفن.
في آخر التصريحات لحكومة السوداني، أعلنت بأن لا حول لها ولا قوة امام المليشيات وامام الإدارة الامريكية، حيث لا تقدم أية ضمانات لأي من الأطراف المتصارعة على الساحة العراقية سواء أثناء عملية التفاوض لخروج القوات الامريكية او من انتقام الأخيرة من المليشيات في حال عاودت ضرب القواعد الامريكية.
وهذا الاعتراف جاء، بعد اغتيال قيادين من حزب الله وسط بغداد، حيث لم يمض أكثر من أربع وعشرين ساعة لحديث محمد شياع السوداني رئيس الوزراء مع قناة (الحدث) الذي أكد بان الحشد الشعبي يملك شعبية واسعة في صفوف الشعب العراقي وهو جزء من المنظومة الأمنية والقوات المسلحة وهو قائدها، ليخبره البنتاغون بأنها اغتالت قياديين من حزب الله وهو احد الفصائل التابعة للحشد الشعبي الممول من موازنة الدولة والذي يقدر تمويله بــ ٢ مليار دولار ونصف، لتغرق بعدها صفحات التواصل الاجتماعي بالشماتة وتنفس الصعداء وانتشار أجواء الفرح والسرور في صفوف الجماهير التي قال عنها السوداني بأنها هذه المليشيات تمتلك شعبية في صفوفها، وهي المتورطة بقتل أكثر من ٨٠٠ الشباب ذكورا واناث في انتفاضة أكتوبر دون أية مساءلة ومحاسبة لا من حكومة عبد المهدي ولا مصطفى الكاظمي، ولا شياع السوداني الذي يخرج الينا ويحدثنا عن شعبية الحشد الشعبي في صفوف العراقيين.
الإطار التنسيقي في حالٍ لا يحسد عليه، وهو يمثل لفيف من الأحزاب الإسلامية الشيعية والمليشيات وشخصيات لها باع طويل بالولاء لولاية الفقيه. وقد اماط اللثام عن المأزق الذي هو فيه، جلسة البرلمان المنعقدة يوم السبت المصادف ١١ شباط ٢٠٢٣ لإصدار قرار (فهو غير ملزم في جميع الحالات) حتى لو معنويا في ادانة الضربات الامريكية وعمليات الاغتيال التي تقوم بها والمطالبة بخروج القوات الامريكية، اذ غاب عن الجلسة حتى عدد من أعضاء الإطار التنسيقي، فلم يحضر سوى ٨٨ عضو من اصل ٣٢٩، وهذا يعكس حجم الخلاف بين اجنحة التحالف التنسيقي، الذي انعكس بشكل مباشر على حكومة السوداني وشخص رئيس الوزراء الذي انتهى شهر عسله، حيث لا المليشيات التي نصبته رئيسا للوزراء راضية عليه، ولا الإدارة الامريكية الممتعضة من ميوعته و انصياعه صاغرا للمليشيات، وهو يسعى أي السوداني بكل اخلاص بالبحث عن العصا لمسكها من الوسط، في الوقت الذي ليس هناك أي عصا او في افضل الأحوال كسرت اثناء الضربات المتبادلة بين الاخوة تحت الطاولة.
بشكل اخر نقول، أن السوداني يعود خطوة الى الوراء او الى حيث انتهت حكومة الكاظمي بدفع العراق للانخراط بمحيط ما يسمى بالعربي، بالرغم من تضحياته الجسام التي بدأها بإعلان براءته من حزب الدعوة وتقديم استقالته منه عندما شم رائحة تنصيبه رئيسا للوزراء عوضا من عادل عبد المهدي، وكانت استقالته الشكلية من حزب الدعوة هي غمزة لمغازلة ساحات الانتفاضة؛ التحرير والحبوبي والعروسة والثورة وغيرها من الساحات في مدن قلاع المليشيات والأحزاب الاسلامية التي خرجت فيها الملايين من الجماهير لمحاكمة الفاسدين وقامت بحرق مقرات تلك المليشيات والأحزاب التي انتمى الى واحدة منها شياع السوداني، ووقفت بصدور عارية امام قناصي وبنادق المليشيات التي يدافع اليوم السوداني عنها ويعتبرها جزء من القوات المسلحة وهو قائدها، إلى جانب تحمّله آلام تمزيق صوره أو رسم علامة الرفض (✖️) عليه من قبل تلك الساحات، وانتهاء بتجرّعه ما جاء في حملة الصحف الإيرانية عليه وتشبيهه بصدام حسين في أيام تنظيم مباراة كأس الخليج في مدينة البصرة في بداية عام ٢٠٢٣، عندما جاهر علانية بدفاعه عن عروبة العراق وفي تسمية الخليج بالخليج العربي بدل من الفارسي، وقالها دون تردد في مقابلته قبل عام مع القناة الألمانية (دي دبليو) اثناء زيارته الى اوروبا. وحيث أعاد الى الذاكرة ما حدث في الماضي، وهو الصراع بين المشروعين، مشروع “الامة العربية” الذي كان يقوده صدام حسين ومشروع “الثورة الإسلامية” الذي رفع لوائه الخميني، وعلى إثرهما نشبت حرب دموية طوال ثمان سنوات بين المشروعين، لينتصر المشروع الثاني بعد خمسة عشر عام على يد الغزو الأمريكي للعراق.
ان المأزق الذي يعيشه اليوم السوداني هو نفس المأزق الذي وقع فيه مسؤوله في حزب الدعوة نوري المالكي ( ويرجح أنه هو من اقترح عليه تقديم استقالته من حزب الدعوة للالتفاف على المنتفضين في تشرين) عندما كانت بوصلته موجهة لاعادة تأسيس (دولة وطنية)، فحاول عبر قمع تظاهرات المنطقة الغربية وتشكيل قوات (دجلة) لاجتياح المناطق التي كانت تحت سيطرة الأحزاب القومية الكردية، التي عادت اليوم الى المركز بعد الحملة العسكرية في السادس عشر من أكتوبر في ٢٠١٧ على اثر الاستفتاء على استقلال كردستان في عهد حكومة العبادي، الا انه سرعان ما تغير اتجاه شراعه بسبب الرياح الطائفية القادمة من سورية بعد هبوب نسيم الثورتين المصرية والتونسية على المنطقة ليستبدل راية (الدولة الوطنية) براية الطائفية، ليطاح به بعد ذلك دون أن يسمع له صوت على اثر اجتياح داعش ثلث مساحة العراق. وها هو السوداني الاخر يطمس في نفس المستنقع الذي وقع فيه سلفه المالكي، حيث يترنح هو وحكومته على إثر الضربات الامريكية وضربات المليشيات الموالية لإيران، فمثلما استدار المالكي لنظام طهران ولقب نفسه بـ “المختار” تيمنا بالمختار بن يوسف الثقفي (٦٢٢م-٦٨٦م) الذي رفع شعار (يا لثارات الحسين) في صراعه على السلطة مع الدولة الاموية، يستدير اليوم السوداني الى المليشيات الموالية لإيران. فهو من جهة لا يملك الجرأة ليحل او يقضي على مليشيات الحشد الشعبي، فدونه ليس هناك اية فرصة للنجاح في دمج العراق بالمحيط العربي وتحقيق مشروعه، لأن حكومته أُسست على حراب المليشيات وجماجم المنتفضين، وفي نفس الوقت لا يستطيع الاستنجاد بأمريكا لأنه جزء من المنظومة المليشياتية والإسلامية ولا يمكن له كسر عصا الطاعة. وبهذا ليس امامه الا الانتظار في طابور الاستغناء عنه اسوة بالبقية التي سبقته، ويقضي أيامه الأخيرة، بَعَدِّ الضربات الأمريكية والمليشياتية، والتنديد والعويل على “السيادة الوطنية”.
العراق تنتظره أيام حالكة، وهي مرحلة جديدة من اشتداد الأزمة السياسية وانعكاسها على الأوضاع الأمنية، وستفتح الابواب من جديد على هبوب رياح رجعية والتي احدى تياراتها الطائفية، وسيؤدي الى تراجع المدنية والحريات وسيادة أجواء من الترقب والخوف واليأس من التغيير. وعليه نؤكد من جديد أن أي حديث عن الأمن والأمان والاستقرار لا يجدي نفعا دون طرد القوات الامريكية ومنظومة المليشيات السياسية والعسكرية من العراق.