منبر العراق الحر :
وأنت تمشي في الطرقات التي لا تعرف الاستقامة رغم الاستواء يدفعك الانحدار الى اليمين حينا والى الوراء حينا آخر ، ترى وجوها هي نفسها تلك الوجوه بسحنة سمراء وشعر متجعد فاحم بالسواد ، يتهادى الى مسامعك وأنت في اي مكان صوت الاذان بلحن شجي هادئ مرددا شهادة ان لا اله إلا الله تهدهد الاسماع وتثير فيك الخشوع ، فبدلا من أن تشحذ سيفك العربي وتهتدي بالنجوم كي تعبر الصحراء عليك ان تشحن بطاقة صفراء وتعبر بها انفاقا مظلمة كالليل في وضح النهار ، لابد لك ان تقرأ جيدا خرائط المترو كي تنزل في المحطات التي تريد ، الراكبون في المترو لا يتحدثون مع البعض عيونهم مسمرة في صحف اليوم يقرءون اخبار البلاد والبعض منهم يحدقون في هواتفهم يقرءون رسائل نصية ، أحدهم كان بقربي وجدني أنظر الى شاشة هاتفه النقال وهو يقلب صفحات رسائله ، نظر إلي فشعرت بالخجل ، وددت أن أخبره بأنني لا أجيد لغتهم كي أشعره بالاطمئنان ، تكلمت مع نفسي بصوت عال لكنه تجاهلني ولم يبال ، نظرت الى الجميع متفاخرا بلغتي العربية فشتان ما بين لغتي ولغتهم ، فمخارج حروفهم بأصوات لا تتعدى الشفاه ولا تتجاوز أطراف اللسان أما حروف لغة الضاد كالعين والحاء والخاء والهاء وغيرها غائرة في أعماق النفوس ، ان لغتهم ليست سوى حروف تجمعت من كل حدب وصوب ، نزلت في أحدى المحطات التي اخترتها كي اتنزه في حديقة وصفوها بأنها غناء ، لكنني لم ار فيها طيورا ولم اسمع زقزقة عصافير ولا هديل حمام ، فقلت مع نفسي من اين يأتي الغناء الذي تردده تلك الحديقة ؟ تداركت ما أنا فيه ، ورأيت أن الاشجار بأغصانها الزاهية وثمارها الدانية تعزف أجمل الالحان ، وإن عدد الاشجار يفوق كثيرا عدد الطيور والعصافير ولعل حدائق الطيور الرائعة التي سجنت البعض منها اخبرت غيرها بالرحيل ، آلات الغناء تبدلت فحفيف الاغصان مع شذى الورود يصنع لك لحنا من أنغام تتوافق مع ما تنشده من اغنية ، بساط الارض اخضر مرصع بألوان الزهور ، العاب القوى لممارسة رياضة ما تهوى تجدد فيك الدماء ، موزعة في كل مكان ، طريق رئيسي يجتاز قلب الحديقة يستغله الجميع لممارسة الركض ، شيب وشباب ، نساء وفتيات وكذلك أطفال يتسابقون فيما بينهم ، المقاعد على حافة الممرات تتوزع بأشكال هندسية تلبس اثوابا زاهية ، يبدو إن الغرور لا يصيب الجميلات فلا تلاحقهن عيون ولا تشاورهن ظنون ، لا أحد يشير لأحد بكلام ولا يبادره بسلام . لمحت حبيبين جالسان ظننتهما يتهامسان بشوق يعتريهما لكني وجدت غير ذلك ، كل منهما مشغول بهاتفه فهما غير منفصلين لكنهما في عالمين مختلفين ، ليست لدي وسيلة ولا مقياس لوصف النظافة فما أكثر الحاويات بلا نفايات ، لا يفرغ منها مكان ولا تشوبها عيان ، كل شيء هنا بمقدار ، قد تبدو غريبا على البعض ، لكنك لابد ان تعلم ان بعضهم قد يكون غريبا عليك ، دوار أصابني فتغير طعم اللعاب بفمي حاولت ان أبصق لكن لمعان الطرق وأرصفتها الملونة منعتني من ذلك فقررت ان احتفظ بها كي ابصق بوجوه المسؤولين الذين فقدوا الاحساس بالمسؤولية في وطن منهوب ، الناس هنا لا يشترون مالا يحتاجون ولا يطبخون ما يزيد على شبعهم ، حاولت عمدا ان اتجاوز دوري في الصف المؤدي لاقتناء بطاقة الدخول الى مدينة الالعاب ، صرخ الجميع بوجهي فلقد كان واضحا من أنهم يطالبونني باحترام النظام فبياض الشيب لا يغفر لي ذلك التجاوز ، تطبيق النظام عندهم لا يحتاج لرجل امن متخفي او شرطي بسلاح ، حتى عندما تركب الباص عليك ان تستخدم عدادا ذاتيا يستقطع أجور النقل بعد عرض تلك البطاقة الصفراء المشحونة مسبقا على شاشة ذلك العداد ، وان لم يحصل دلك لا أحد يحاسبك سوى ضمير حي في كل واحد منهم ، آخر موعد للمترو أجبرني الالتزام بضبط الوقت وأن أخطط ليومي جيدا كي اختار رحلتي القادمة ، لكنني قررت أن أترك تلك الرحلة ذات المحطات التي لا تنتهي وأن أحزم امتعتي في حقيبتي التي قررت أن أعود بها فارغة إلا من الشوق الذي يحرقني ، فلا يبرد إلا بأحضان اهلي وأصدقائي الطيبين ، فالسعادة لا تجدها في عالم لا يشعر بك وان أعجبك ، أنما في عالم يشعر بك وان لم يعجبك.