سارتر والاتّحاد السوفياتي: «الرّجل الأنيق» و«الأبله المفيد»

منبر العراق الحر :

بين جان بول سارتر والاتحاد السوفياتي علاقة وطيدة وجدلية، ومع ذلك، فإنها بقيت بعيدةً عن الدراسة التاريخية والفكرية. حظي الفيلسوف الفرنسي في الغرب بمكانة بارزة بوصفه قائداً فكرياً لجيل من الكتّاب والفلاسفة، وكان يُنظر إليه على أنه تجسيد معين لعصره: كان من الممكن أن يكون “رأس المال المعاصر”، وفقاً لجان ماري لو كليزيو، أو “قرن الإنسان” كما يصفه برنارد هنري ليفي، الذي سيهجوه بعد عقود من وفاته بسبب السوفيات. في كتابها الصادر حديثاً “سارتر والاتحاد السوفياتي: اللاعب والناجون” تقدم سيسيل فايسي، دراسةً وافيةً عن هذه العلاقة من وجهة نظر نقدية للطرفين، الفيلسوف والكيان الشيوعي الأكبر في تاريخ العالم.
لمدة خمسة عشر عاماً تقريباً منذ عام 1952، وعلى الرغم من الصعود والهبوط، أكد سارتر روابطه مع الاتحاد السوفياتي ونقل عناصر خطابه، مع الحفاظ على علاقات معقدة ومتغيرة مع الحزب الشيوعي الفرنسي، ولكنها سيئة في كثير من الأحيان. إن الانبهار الذي أثاره الاتحاد السوفياتي لدى بعض المثقفين الغربيين في العشرينات والثلاثينات من القرن الماضي، وهو الانبهار الذي تجسد أحياناً، أو حتى تم تفسيره، من خلال الرحلات إلى “وطن الاشتراكية”، قد تمت دراسته جيداً؛ من ناحية أخرى، لا يزال هناك القليل من التحليل لفترة ما بعد الحرب، حتى لو كان عمل فرانسوا هورمانت قد فتح الطريق، منذ عام 2000، من ناحية، إلى دراسة تركيبية تغطي جزءاً كبيراً من القرن العشرين وما بعده. ومن ناحية أخرى، إلى مقارنات مثمرة بين الرحلات إلى الاتحاد السوفياتي وكوبا والصين. إن استكشاف العلاقات بين سارتر والاتحاد السوفياتي يبدو أمراً واعداً أكثر حيث ابتكر الفيلسوف وجسد نظرية الالتزام: بالنسبة إليه، يتحمل كل شخص مسؤولية تغيير العالم ويجب أن يتصرف في هذا الاتجاه؛ الجميع مسؤولون عن أفعالهم وسيتم الحكم عليهم كل على قدر مسؤوليته. وبالتالي فإن السؤال مشروع: مع الاتحاد السوفياتي، ما الذي التزمه سارتر ومع من؟ ويزداد الأمر أهمية منذ أن أكدت سيمون دي بوفوار في أوائل السبعينات من القرن الماضي أنها لا تعرف “ما كان يحدث بالفعل في الاتحاد السوفياتي وفي الديموقراطيات الشعبية”. بهذه الإشكالية تشرع الكاتبة في بحثها عن جذور العلاقة بين الفيلسوف الفرنسي والمعسكر الاشتراكي.
بين عامي 1952 و1968، وعلى الرغم من القطيعة التي سببها التدخل العسكري السوفياتي في بودابست، زار سارتر الاتحاد السوفياتي إحدى عشرة مرة، أغلبها برفقة سيمون دي بوفوار. تراوحت هذه الرحلات بين بضع ساعات إلى أكثر من شهر، هي جوهر هذا الكتاب، الذي شكلت التقارير التي كتبها المرافقون السوفيات للزوجين، مادته الأساسية الخام. خلال هذه الرحلات طور الفيلسوف الفرنسي العديد من العلاقات الشخصية هناك، ولا سيما مع لينا زونينا التي كان على علاقة بها، تتجاوز صداقة الأدب والفكر. من دون أن يدرك ذلك بالضرورة في البداية، كان سارتر، في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، محاطاً بالمؤلفين السوفيات الذين يشغلون مناصب في السلطة: أولئك الذين أطلق عليهم الاتحاد السوفياتي لقب “جنرالات” الأدب. بعدما بدأوا حياتهم المهنية في عهد ستالين، جلسوا في أمانة اتحاد الكتاب وفي اللجنة الخارجية: كانوا مسؤولين عن تصدير الأفكار والخطب والحجج السوفياتية، وهي مهمة مخصصة لأفراد تم اختيارهم بعناية. كما صادف سارتر قليلاً، بعد طلباته المتكررة، “الجيل الرابع” من الأدب السوفياتي: المؤلفين الشباب الذين ظهروا في نهاية الخمسينات وبداية الستينات ولم ينخرطوا في الستالينية. ومن ناحية أخرى، لم يسع إلى مقابلة المحظورين – آنا أخماتوفا، وفاسيلي غروسمان، وميخائيل زوشينكو، وبوريس باسترناك، وما إلى ذلك. وعندما أراد تناول العشاء مع سولجينيتسين، كان الأخير هو الذي رفض، معتبراً أنه متضرر للغاية من علاقاته مع المسؤولين الثقافيين.
وما يلفت الانتباه في هذه الحقبة المثيرة، أن سارتر حدد موقفه الإيجابي من عبد الناصر من خلال رحلات موسكو، وربما كان الروس صلة وصله اللاحقة مع محمد حسنين هيكل. ولاحقاً انفصل عن الاتحاد السوفياتي بعدما مُنح لقب دكتوراه فخرية من جامعة القدس في السفارة الإسرائيلية في باريس في 7 تشرين الثاني (نوفمبر) 1976. وبعد ذلك مباشرة وقع على عريضة تطالب بالإفراج عن إدوارد كوزنتسوف، الكاتب السوفياتي المنشق الذي هاجر إلى إسرائيل، وظهر توقيعه إلى جانب توقيع أكثر من مئة وخمسين كاتباً من أربعة عشر بلداً. الكتاب ممتع، لا سيما رحلات سارتر الأولى، وتفاصيلها، رغم أن الكاتبة تعالج الموضوع من زاوية مناهضة للروس.
تقول الكاتبة إن مؤلف كتاب “الأيدي القذرة” اكتشف في وقت مبكر جداً القمع والجرائم السوفياتية، ومداها، لكنه كان يعتقد، وقال ذلك بوضوح، أن القضية الثورية يمكن أن تبرر مثل هذه الجرائم. كان هذا الابن “البرجوازي” – كما اعترف بذلك بنفسه – مقتنعاً في الواقع بضرورة الثورة، وهذا الرجل “الأنيق”، إذا استخدمنا تعبير جورج كانغيليم، زميله في المدرسة الثانوية، لم يشعر إلا بالقليل من التعاطف مع الضحايا الذين بدوا بعيدين جداً بالنسبة إليه في الاتحاد السوفياتي. ولأسباب أيديولوجية، انضم سارتر إلى المواقف السوفياتية. حيث تفسر الباحثة إقامته في الاتحاد السوفياتي من خلال هذا التوافق الفكري، ولكن أيضاً من خلال ذوقه في السفر، وإظهار نفسه كواحد من أفضل الغربيين استقبالاً. ومما لا شك فيه أيضاً أن تاريخ علاقة سارتر مع الاتحاد السوفياتي يتطلب منا إعادة ضبط المفهوم الفرنسي للمثقف، كما تقول الكاتبة، متسائلةً: أين استقلال العقل؟ أين المسؤولية الفردية عن التعليقات المقدمة وعواقبها؟ إن إعادة النظر هذه أكثر تعقيداً من حيث التنفيذ، حيث يظل بعض القراء الناضجين مرتبطين بسارتر، باعتباره أحد رموز اختياراتهم في الحياة، ويجدون صعوبة في الاعتراف بأدنى انتقاد لممثلهم الأعلى. وتظل الحقيقة أن سارتر، سواء كان مبجلاً أم مكروهاً أم محتقراً، كان واحداً من آخر المثقفين الفرنسيين المعروفين والمعترف بهم في جميع أنحاء العالم. وإذا لم يكتب شيئاً عن رحلاته إلى الاتحاد السوفياتي والاجتماعات التي عقدها هناك، فربما يكون ذلك لأنه أدرك الفجوات بين ما لاحظه وما كان يود تصديقه، وأنه لم يرغب في استكشاف الفجوة بين الاتحاد السوفياتي الحلم، والاتحاد السوفياتي الفعلي. أو ربما لأنه فهم أنه لم ير إلا ما أعطي له أن يراه، في إطار هذه الدبلوماسية الثقافية التي وضعت قواعدها ثم صقلتها منذ بداية العشرينات، كما تقول سيسيل فايسي.
تبقى إشارة مهمة في هذا العمل تتعلق بالمنهج، حيث يكتشف القارئ من ورائه جهداً عظيماً يبدو أن الكاتبة قد بذلته في توفير مصادر لم تنشر سابقاً. إلى جانب قراءة أعمال المؤلفين المعنيين بصداقة الفيلسوف وعداوته، باللغتين الفرنسية والروسية، وذكريات، ومذكرات، ومراسلات، وعدد لا يحصى من الصحف والمجلات اليومية، مصدرها الأساسي المكتبة الوطنية الروسية (لينين سابقاً) في موسكو، بالإضافة إلى نظيراتها في تبليسي وكييف. كما لم يكن من الممكن ظهور هذا الكتاب من دون الوصول إلى بعض صناديق الأرشيف السوفياتي، بفضل الانفتاح التدريجي لهذه المؤسسات منذ نهاية الثمانينات، لا سيما في جمهوريات الاتحاد السابقة، وأرشيف اللجنة الخارجية لاتحاد الكتاب، الذي يضم عدداً من التقارير التي تفصل اجتماعات سارتر مع محاوريه السوفيات.
احمد نظيف—-النهار العربي

اترك رد