مُرَوّض الفولاذ النحات العالمي ريتشارد سيرا… رحل وستبقى بصماته شاهدة على الابداع

منبر العراق الحر :

“عندما ترى قطعي، فإنك لا تتذكّر شيئًا ما. أنت تتذكر تجربة أو ممراً”. هذه العبارات المؤرّخة في العام 2004 عكست فلسفة النحات الأميركي العالمي ريتشارد سيرا R .Serra الذي توفي (في 26 آذار/ مارس 2024) في أورينت البلدة الساحلية الصغيرة التي كان يعيش فيها على طرف هامبتونز في ولاية نيويورك، بسبب التهاب رئوي عن عمر ناهز الـ 85 عاماً.

ريتشارد سيرا | مجلة القافلة

ترك النحات العالمي وراءه العديد من الأعمال التذكارية التي خلّدت اسمه كواحد من المجددين لفن النحت في العالم. فقد أخذ الفن الأقلي Minimal Art من التقشف والبساطة في تجريد الأشكال، نحو الضخامة العملاقة الصادمة للعين والمثيرة للأسئلة. وكان المعرض الاستعادي الذي أقيم له في متحف الفن الحديث (MoMA) في نيويورك عام 2007، والذي استقبل 800 ألف زائر، هو الأخير قبيل رحيله.

يُعتبر سيرا أحد أهم النحاتين في الـ50 سنة الماضية، اشتهر بألواحه الفولاذية الصدئة الضخمة ذات السطوح المائلة المذهلة والمنحنيات الآسرة المُرتّبة بذكاء في الفضاء، كما أحدثت منشآته الهائلة، الموضوعة في الطبيعة، وفي قلب المدن في الأماكن الأكثر ازدحاماً أو في المتاحف الكبرى، ثورة في النحت بإعطائه بعداً معمارياً غير مسبوق، لاسيما المنحوتات التي يمكنك الدخول اليها وتلك التي على شكل حلزونات، حيث يمكنك المشي والتجوال داخلها في متاهةٍ من نوع آخر. في هذا السياق قال ريتشارد سيرا لصحيفة “لوموند” عام 2008: “حتى وقت قريب جداً كان النحت شيئًا يمكنكَ وصفه أو تصويره كشيء Object. ما أفعله هو عكس ذلك. أنا أصنع شيئًا، بموضوع معين، والشخص الذي يدخل إليه سيشعر بالتجربة، هذه التجربة التي من دونها لا يوجد عمل”.

وفاة النحات الأميركي ريتشارد سيرا عن عمر يناهز 85 عاما | الحرة

الولع بالضخامة
لُقِّبَ بمروّض الفولاذ بوصفها الخامة الوحيدة التي أذهل بها العالم، ريتشارد سيرا من مواليد 2 تشرين الثاني/ نوفمبر 1939 في سان فرانسيسكو (كاليفورنيا)، من أبوين مهاجرين، والدته من مواليد أوديسا، الموجودة الآن في أوكرانيا، ووالده من أصل إسباني، كان يعمل في أحواض بناء السفن، الأمر الذي عرّف الطفل في عمر مبكّر على الهياكل الفولاذية الكبيرة لهياكل القوارب.
درس الفنون الجميلة في جامعة ييل بين عامي 1961 و1964، ولتمويل دراساته الفنية، عمل في مصنع للصلب، ثم اكتشف في أكاديمية الغراند شوميير في باريس الأعمال الراقية لقسطنطين برانكوزي، فتأثر بطريقة وصفه للخط في الفضاء، كما وجد الإلهام في زيارته لمحترف بطله الأثير ألبرتو جياكوميتي. صادق سيرا روبرت سميثسون فنان الأرض وعمل معه في مشروع Spiral Jetty كما صادق بعض فناني المينمال الأميركيين.

انطلق بشكل نهائي إلى النحت واستقرّ في نيويورك عام 1966. بدأ بتأليف أعمال فولاذية ضخمة وأنيقة في نهاية الستينات. استوحى ريتشارد سيرا من حدائق Zen التي اكتشفها في اليابان، العلاقة مع الطبيعة التي تُرى من الداخل. فعمل الفنان على استخدام ألواح أو لفائف من الفولاذ المقاوم للصدأ Corten، حيث يطبق عليها بالفرشاة محلولاً يمنحها مظهراً صدئاً ويتحكم في الفروق اللونية الدقيقة: البرتقالي والشوكولاتة.. ثم يضعها في وضع مستقيم في الفضاء لتشكّل إنشاءات أنيقة وتشابكات ومتاهات- مثل المناظر الطبيعية الراقية- حيث تكون العناصر المعدنية بقدر الفراغ الذي يحيط بها والمكان الذي تمّ تركيبها فيه. وعلى الرغم من وزنها، إلّا أن أشكالها تعبّر عن خفّة مذهلة. فأعماله تذكارية بشكل هائل بقدر ما هي رصينة وخام جداً، مما يربطها بالأقلوية minimalisme.

أما العلاقة مع المُشاهد فهي متأتية من إيحاءات رحلته الى إسبانيا، أثناء رؤية لوحة الوصيفات “لاس مينيناس” لدييغو فيلاسكويز- وهي صورة جماعية من القرن السابع عشر تتلاعب بفكرة المشاهَدة – مما جعله يعيد النظر في كل ما يعرفه عن الفن. فقد مرّ بفترة من “الارتباك التام” قبل أن يعيد اختراع ممارسته حول النحت وفكرة أنّ المُشاهد نفسه سيكون الموضوع الحقيقي لعمله. ذلك ما يؤكّد قوله لصحيفة The Guardian في العام 2008: “لقد عكستُ معادلة العلاقة بالموضوع بشكل كامل. المحتوى هو أنت! إذا لم تَدخل في العمل وتنخرط فيه، فلن يكون هناك أي محتوى”.

من النزهة الى المتاهة ثم صحراء قطر
بدأت علاقته بالفولاذ تترسخ منذ العام 1971، حين تلقّى طلباً من “بوليتزر”، جامعي الفن الحديث الكبار، فزرع في ممتلكاتهم صفائح فولاذية طولها 20 متراً، لم يبرز منها سوى حافة مثلثة، يشكّل الفراغ المسافة بينها. ثم قام بعمل “القوس المائل” وهو جدار فولاذي منحنٍ يبلغ ارتفاعه 55 متراً، ويقع في نيويورك في فيدرال بلازا، وهو عمل انتُقد بشدة. ورغم إعلان الفنان احترامه لحركة المرور البشرية عند تصميم منحوتاته، فإنّ السكان المحليين لم يكونوا سعداء بذلك فتمّ تفكيكه. بقي “القوس المائل”، في هذه المنطقة التجارية لمدة 8 سنوات فقط، من عام 1981 إلى عام 1989.

ترك الفنان بصمته على الباريسيين من خلال لوحاته المعدنية المستطيلة الضخمة والرفيعة، المنصوبة (العام 2008) في وضع مستقيم مثل “المنهير” لفنون ما قبل التاريخ أو “أوديسة الفضاء” للسينمائي ستانلي كوبريك، تحت صحن القصر الكبير Grand Palais ذي القبة الزجاجية في تركيبات أسطورية مذهلة حملت عنوان “النزهة”، بحيث جعل بعض هذه اللوحات غير متوازنة بمهارة، ما أدّى إلى التشكيك في عموديتنا، بين القوة والهشاشة. فبعد زيارة الفنان الألماني أنسيلم كيفر في عام 2007، حلّ الفنان الأميركي ريتشارد سيرا ضيفاً على حدث يسمّى Monumenta العام 2008، جاء بمثابة عودة «كبيرة» له إلى باريس بعد انقطاع، لا سيما مع عودة منحوتتة “كلارا كلارا” التي حملت اسم زوجة الفنان الى مكانها في حديقة التويلري بعد إخفائها المتعمد منذ العام 1938.

هل ستبقى منحوتة سيرا لفترة أطول؟ هذا السؤال الإشكالي الذي كان يواجهه الفنان دوماً في أكثر من مكان. وذلك ما حدث لمنحوتة بعنوان Slat، وهي مكونة من 5 صفائح فولاذية تزن حوالى 20 طناً كل منها ويبلغ ارتفاعها 11 متراً، تمّ تركيبها في عام 1984 في ساحة الديفانس في باريس، في موقع عند مفترق طرق، حيث كانت مغطاة بانتظام بالملصقات والكتابة على الجدران، ما دعا الى تفكيكها، ثم بعد إجراء كافة الاحتياطيات، عادت المنحوتة لتنضمّ إلى Esplanade de la Défense في العام 2008. واجه الفنان هذا الموقف بالقول: “أنا من اختار هذا الموقع، ومن الطبيعي أن يصادف الفن في الأماكن العامة جميع أنواع الناس، وكانت هناك محطة للحافلات على مسافة ليست بعيدة”.
بعد عرض أعماله في المتاحف والمجموعات الكبرى في جميع أنحاء العالم، أصبحت الخلافات العنيفة التي شهدتها فترة الثمانينات، وبخاصة في نيويورك، طي النسيان، لا سيما بعد النجاح الباهر الذي أحرزه في عمله “مسألة وقت” وهو تركيب دائم، في متحف غوغنهايم في بلباو في اسبانيا، يتكون من سلسلة من اللوالب والأشكال الملتوية والمتاهات، جمعت في الغرفة 104 من المتحف، وهي المساحة الوحيدة في أوروبا التي تتمتع بخصائص لاستيعاب هذه الأعمال الهائلة. تمّ تصميم المنحوتات الثماني التي صنعها منذ عام 2005 لخلق تجربة عالمية. وُصفت بأنّها المتاهة الأكثر تعقيداً، يتجول الزوار حول وداخل المنحوتات التي يبلغ ارتفاعها 4 أمتار. تزن أخف قطعة 44 طناً وأثقلها 276 طناً.

في بلباو، يلعب الزوار بالمنحوتات، يمكنهم الدخول، وعزل أنفسهم، والالتقاء ببعضهم البعض، أو الهروب. إنّهم على علاقة حميمة مع العمل، وعلى اتصال ملموس بجدران الفولاذ المؤكسد، مع حبيبات السطح الكهرمانية. ما يدفع الى التفكير في أجزاء من الطبيعة البطولية، والأودية، والممرات الجبلية، والمساحات الخضراء… هل العلاقة الحميمة مرادفة للقرب من المادة؟ يتساءل الفنان ويقول: “بالنسبة لي، الأمر يتعلق أكثر بالعاطفة التي نختبرها في ما يتعلق بالوقت. ليس الزمن العادي للوقت بل زمن الذاكرة الذي يسمح لنا بإحياء الماضي والذكريات والتحرك نحو ما نحبه”.

لم يقتصر حضور أعماله في المدن وكبرى العواصم العالمية بل تخطّاه الى الأماكن النائية، ففي عام 2014 قام ريتشارد سيرا، بطلب من هيئة متاحف قطر، بتركيب 4 ألواح فولاذية بارتفاع 15 متراً، وتقع مرافقها العملاقة في محمية بروق الطبيعية على بعد 70 كيلومتراً من الدوحة حملت عنوان “شرق-غرب/غرب-شرق”. تمّ تصميمها لربط البحار الواقعة شرق وغرب المناظر الطبيعية في الموقع. تخلق هذه المنحوتات الأربع العملاقة، المنغمسة في الشمس، مسرحية فريدة من الظلال والأضواء في الصحراء القطرية. أعمال جميلة ومربكة في نفس الوقت، تعطينا الانطباع بأننا في كوكب آخر!

المصدر: بيروت- النهار العربي
مهى سلطان

اترك رد