منبر العراق الحر :
قراءة الأطروحات الفكرية لإدوارد سعيد ,الهادفة الى الدفع بالنص الى مركز الصراع الثقافي-السياسي, تثير لدى القارئ سؤلا لائب : بالرغم من وجود مقولات فكرية ثرة عند مجموعة من الادباء والكتاب , على هامش الثقافة العربية من القدماء والمعاصرين, لماذا لم يتطور النقد الادبي عند العرب الى نقد فكري يبحث ويستقرأ النص والفرد والمجتمع ؟
قد يعود ذلك الى الفهم والمهمة التي كلف وقام بها الفكر في المجتمع والثقافة العربية , في الامس واليوم, وهي التبرير والتسويغ : التشريع للدولة السلطانية والملك الحاكم, أي التركيز على تقنين وتشريع سلطة الخليفة , مع اهمال , بل انكار, الدور الحيوي للفرد والامة , في عملية تدبير شؤونهما , بما في ذلك حقهما في اختيار من يحكمهما , وحقهما في عزله والثورة عليه ان تطلب الامر. فقد كان دور الفكر هو ايجاد مبررات للدين والسياسة, عبر اعلاء شأن الايمان بالعقائد والافكار, بصياغة البراهين على صوابها, اي القبول بالخطاب الفكري قبل تحليله ونقده, ومن ثم يكون التبرير الديني طريقا للتبرير السياسي وقبول معطيات وطروحات السياسة والخضوع للأمر الواقع. بل ان مفهوم التفكير والعقل , في اللغة العربية يفضي الى مثل هذه النتيجة.جمع قوائم
“العقل” في اللغة: هو مصدر من عَقَلَ يَعْقِلُ عَقْلاً مَعْقولاً جمعه عُقُولّ، ورجل عاقل هو الجامع لأمره ورأيه، مأخوذ من عقلتُ البعيرَ إذا جمَعْتَ قوائمه، والعاقل جمعه عُقلاء. وقيل: العاقل الذي يحبس نفسه ويردها عن هواها، أخذ من قولهم قد اعتقل لأنه إذا حُبسَ ومُنِع الكلام، ويقال أيضاً العقل: العلم، والدية، والحصن، كما يقال أيضاً العقل القلب. وأصل العقل الإمساك والاستمساك، مثال ذلك: عَقْل البعيرِ بالعِقال وعَقْلِ الدواءِ البَطْنَ وعَقَلَتِ المرأةُ شعرها وعَقَلَ لسانَه كَفَّه .
عملت الثقافة العربية، عبر تاريخها، على إقصاء المُختلف المبدع ، وعلى الحجر عليه بتهمة الزندقة ،وفقا للحديث «كل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار »? فيشتبك الدنيوي والديني، مع وضع الدين سابقاً على الأدب، في حين أن الأدب سبق الدين في كل الثقافات والحضارات، وهو سابقٌ، كما هي «ملحمة جلجامش » قبل التوراة، و الشِّعر الجاهلي قبل “القرآن”.
كتب الامام الغزالي في مقدمة كتابه( فضائح الباطنية وفضائل المستظهرية) : “خرجت الاوامر الشريفة المقدسة النبوية المستظهرية الي في تصنيف كتاب في الرد على الباطنية, مشتمل على الكشف عن بدعهم وضلالاتهم وفنون مكرهم واحتيالهم ووجه استدراجهم عوام الخلق وجهالهم ,وايضاح عوائلهم في تلبيسهم وخدعهم وانسلالهم عن رقبة الاسلام , وانسلاخهم وانخلاعهم وابراز فضائهم وقبائهم بما يفضي الى هتك استارهم وكشف اغوارهم.”. هنا المفكر يتبع السياسي ويسخر من اجل خدمة السلطة, عبر اضفاء الشرعية على الخلفية العباسي حينها .جاء عنوان الباب التاسع من الكتاب” في اقامة البرهان الفقهي الشرعي على ان الامام الحق في عصرنا هذا هو الامام المستظهر بالله حرس الله ظلاله.”.
الفهم الحديث للفكر والنقد على انه قراءة ومنظور للحقيقة, يسعى الى اثبات نسبية المعرفة وتعدد الروى , عبر تحليل وبناء العناصر المكونة للخطاب ونزع السلطة من تلك العناصر : سلطة التاريخ والمقدس.
هنا ندخل في موضوع علاقة الكاتب بالسلطة .هذه العلاقة قد تكون ظاهرة او مضمرة: انها التشابك والافتراق بين الكاتب مع سلطة الدولة او السلطة الدينية او الرأي العام او سلطة العائلة او سلطة المؤسسة او القيم الشائعة والاعراف السائدة والتقاليد. بل قد تكون السلطة الداخلية التي هي مضمرة لا نشعر بوجودها , لكنها كامنة هنالك في موضع خفي من الروح او الضمير او اللاوعي او الذاكرة. بالنتيجة يحتدم الصراع الصامت او المعلن بين الذاكرة والمخيلة الى صراع بين العقل الجمعي : بين السلطة الخارجية والبنيات الذهنية الممتدة عنها او المتقاطعة معها.
ففي سياق العلاقات الخفية والظاهرة بين تكوين الكاتب وتجليات السلطة يتشكل نسق ذاكرة الكاتب ووعيه .اذ ان ما يميز الكاتب هو الوعي الاجتماعي والدور الذي يلعبه بهذا الوعي: فالمعرفة الثقافية تقود الى معرفة او تشويه وطمس حقائق خطاب الصراع الاجتماعي والسياسي والثقافي في المجتمع.
عن الانسان العربي الحديث, كتب إدوارد سعيد مقالا طويلا , نشر في كتابه تأملات في المنفى, بعنوان ” النثر والنثر القصصي العربي بعد 1948″. يذهب فيه الى ان الانسان العربي, في السنين التي سبقت نكبة 1948 , قد كان في <الحاضر> , وهو في انسجام مع <الماضي> ويتطلع الى إمكانات<المستقبل>. الحاضر , حينها, كان يعني الاسراع في مسيرة الاستقلال التي ابتدأت في مطلع القرن العشرين, حتى يتم الوصول الى المستقبل, الانعتاق من الاستعمار الاوربي ووحدة البلاد العربية , واستعادة العرب لدورهم الحضاري, بعد قرون من التصحر واليباب الفكري والسياسي والاقتصادي والاجتماعي تحت نير الحكم العثماني. هذا الحاضر هو الجسر الذي يتم العبور فيه من < الماضي> الى <المستقبل>. ثم حصلت نكبة 1948 فحطمت كل شيء . لم يكن النظام والشعب العربي قادرين على مواجهتها. و ذلك ما افضى الى تمزق العلاقة المتشابكة بين الازمنة الثلاثة في الحياة العربية. فقد تفكك <الماضي>, وتبعثر <الحاضر> وغاب < المستقبل> وانسد الافق على عتمة الخطر والقلق والشك. تحول الحاضر الى مكان غير مستقر لمواجهة القوى التي تريد انهاء المشروع العربي واقتلاع الهوية العربية , وادامة التجزئة والخراب. وبذلك اصبحت المهمة الاولى للمبدع هي وفقا لسعيد” أنتاج فكر ولغة يجسدان أرادة الدفاع عما هو مهدد بالانقراض في الحياة العربية”. كفاح لاستعادة الصلة بين <الماضي> و<الحاضر> و<المستقبل> في الحياة العربية. وبذلك تتحول الكتابة الابداعية الى <عمل تاريخي> اي <عمل مقاوم>.. وتلك هي المهمة التي سعى اليها سعيد بكتاباته : ” تغيير الواقع” بفكر نقدي, يحمل في طياته روح المقاومة , و قادر على ” الغاء المسافات بين اللغة والواقع”!!!.
الكتاب , موضوع المقال, إدوارد سعيد ” رواية فكره” , بقلم الروائية والكاتبة اللبنانية دومينيك إدة، كتاب عن مفكر ناقد , كان شعاره ” قول الحقيقة الى السلطة