قصائد — بقلم رانية مرجية

منبر العراق الحر :

وجع

في آخرِ الليلِ،

حين تنطفئُ أنفاسُ المدنِ الكبرى،

ويصحو الفقرُ على رائحةِ الخبزِ البعيد،

أمدُّ أصابعي نحو الفراغ،

فألمسُ وجوهًا لم أعرفها،

لكنّها تشبهُني في الوجع.

 

كم يشبهُ هذا الكوكبُ قلبَ أمٍّ

أُخذ ابنُها إلى حربٍ بلا جهة،

وعادَ على هيئةِ ريحٍ تطرقُ النافذة

كلّ مساءٍ لتقول: أنا هنا،

لكنّكِ لا ترينني.

 

أنا لستُ من هنا…

كلُّ أرضٍ صارتْ لي وطنًا مؤقتًا،

وكلُّ جرحٍ صارَ جوازَ سفرٍ جديدًا.

أعبرُ من ضوءٍ إلى ظِلٍّ،

ومن فكرةٍ إلى غيابٍ،

كأنّ الحياةَ تدريبٌ على الفقدِ،

وكأنّ الموتَ هو اللغةُ الوحيدةُ التي نفهمها بلا ترجمة.

 

في نيويورك أو غزة،

في طوكيو أو حيفا،

الناسُ يبكونَ بالطريقةِ ذاتها —

لكنّ اختلافَ الموسيقى

هو ما يجعلُ الصراخَ يبدو حضاريًّا أحيانًا.

 

يا وجعي القديم،

يا مرآتي التي لا تكذب،

علّمني كيفَ أحبُّ دون أن أرتجف،

وكيفَ أكتبُ عن الوردِ

في زمنٍ لم يعد يؤمنُ بالرائحة.

 

ما عادَ فينا متّسعٌ للنهايات،

صرنا نكتبُها سطرًا سطرًا

في وجوهِ من نُحبّ،

ونُسلّمها للعالم

كأنّها وثيقةُ اعترافٍ

من جيلٍ نسيَ كيف يبتسمُ وهو ينزف.

=================================

تحفر لي حفرة

الفصل الأول: ولادة الضوء

في البدءِ،

لم يكن في الأرضِ سوى صمتٍ يُفكّر،

وضوءٌ يبحثُ عن قلبٍ يسكنه.

فانشقَّ الطينُ عن كائنٍ يعرفُ نفسه،

كائنٍ خُلق ليقول:

 

“لن أكونَ ظلًّا لأحد،
بل نورًا أُضيءُ به طريقي.”

منذُ تلك اللحظة،

صارَ للصدقِ صوت،

وصارَ للوضوحِ ملامحُ بشرٍ.

الفصل الثاني: زمنُ الأقنعة

كبرتْ الحقيقةُ في صدرِها،

لكنّ العالمَ ضاقَ بها كما تضيقُ الأقنعةُ بالوجوه.

كان الناسُ يتقنونَ التمثيل،

يُحيّون بالابتسامة، ويَطعنونَ بالنوايا.

 

كانوا يقولون: “كنْ مرنًا كي تعيش”،

لكنها قالت:

 

“أفضلُ أن أتكسرَ من الصدق،
على أن أنحني للكذب.”

وحين أرهقها زيفُهم،

رفعت وجهها إلى السماء وقالت:

 

“يا ربّ، احفظْ لي نورَ عيني،
فإني لا أرى في العتمة سواكَ.”
الفصل الثالث: الحفرة

جاء من ظنّ نفسهُ حكيماً،

ومكرُه يبتسمُ من خلفِ لسانه.

قال في سره: “سأسقطها في فخٍّ صغير،

كي تتعلّمَ كيف يُساومُ النور.”

 

فحفَرَ حفرةً في طريقها،

وظنّ أن السماءَ لا ترى.

لكنّ الأرضَ — تلك الأمُّ القديمة —

ارتجفتْ،

وانشقّتْ الحفرةُ تحتَ قدميه.

 

نظرَ إليها مذهولًا وهي تمرُّ فوقه،

فقالت بصوتٍ يليقُ بالمصير:

 

“من يحفرُ لغيره حفرة،
يكتبُ فيها فصلَه الأخير.”
الفصل الرابع: نهوضُ الطهر

لم تحتفلْ بسقوطِه،

فالنورُ لا يشمت،

ولا يتلذّذُ بالعدالة،

إنه فقط… يُضيء.

 

جمعت شظايا قلبِها،

زرعتها في أرضِها،

فسقط المطر،

ونبتت من الحزنِ زهرةُ سلام.

 

قالت:

 

“لن أُخفيَ جرحي،
فهو ختمي المقدّس،
شهادةٌ أني عبرتُ الظلامَ ولم أُصبحْ جزءاً منه.”
الفصل الخامس: سفرُ النور

صارت تمشي بخطى من حنينٍ إلى الحقّ،

تُضيءُ الأماكن التي مرَّ فيها الكذبُ،

تغسلُ الوجوهَ بما تبقّى من الصدقِ في عينيها.

 

قالوا عنها: “عنيدة”،

فقالت: “بل ثابتة.”

قالوا: “قاسية”،

فقالت: “بل صادقة.”

قالوا: “وحيدة”،

فقالت: “ومن كان مع الحق، كيف يكونُ وحيدًا؟”

الفصل السادس: الخلود في الوضوح

اليوم،

حين تُذكَرُ الحقيقة،

ينحني الزمانُ احترامًا.

وحين تُتلى كلماتُها،

تستيقظُ ضمائرُ نائمةٌ منذ قرون.

 

فلا تَحفِرْ لها حفرةً،

ولا تَجربْ أن تخدعَ من يَرى بالنور،

فمن خُلِقَ من صدقٍ،

لا يسقطُ في زيف.

 

هي من تُشبهُ الفجرَ،

تتأخرُ… لكنها تأتي،

وحين تأتي،

ينتهي الليلُ إلى غير رجعة.

النهاية — وعدُ الضوء

وفي آخرِ السفر،

حين هدأ الغبارُ،

سمعَ الكونُ صوتًا يقول:

 

“لا تَحفِرْ لي حفرةً،
فكلُّ حفرةٍ تُحفرُ لي،
تُصبحُ مَدرجًا أطيرُ منه.
أنا ابنةُ النور،
وسأبقى أكتبُهُ في وجهِ العتمة،
إلى أن يَتعبَ الظلامُ من وجودي.”

رانية مرجية – تلفون 7077060-054

كاتبة اعلامية وموجهة مجموعات

 

اترك رد