مع التنوير…ضد العولمة”…منى العساسي

منبر العراق الحر :
حين ننظر إلى الصورة الكلية نجد أن الصراع القائم اليوم هو مواجهة بين شكلين للوجود الإنساني؛ أحدهما يؤمن بقدرة العقل الحر على إنتاج مصيره، والآخر يسعى إلى تحويل الإنسان إلى رقم في منظومة اقتصادية عالمية لا ترى فيه إلا مستهلكًا، أو تابعًا في منظومة محلية تعتبر العقل مصدر تهديد. وفي هذا التوتر يتجلى التنوير بوصفه مشروعًا يحرر الوعي الإنساني من البنى الوصائية التي كبلته طويلًا، ويؤسس لممارسة نقد للعالم يقوم على استقلال العقل وقدرته على المساءلة.
غير أن هذا المشروع وجد نفسه في مواجهة منظومة عولمة اقتصادية وثقافية تعمل على إنتاج إنسان مُنمط، منزوع الجذور، تخضع حركته لمنطق السوق أكثر مما تخضع لأي منظومة قيمية أو معرفية أخرى.
فالتنوير كما أراه هو موقف مضاد للهيمنة، إذ يرفض كل محاولة لتذويب الخصوصيات وتحويل الإنسان إلى مستهلك مستدرج بدلًا من فاعل حر يحدد مساره.
وقد كشفت الأزمات الحديثة ضعف البنية التي تستند إليها العولمة، فمع جائحة كورونا اتضح مدى اعتماد العالم على سلاسل إمداد غير امنه تستجيب لمنطق الربح اللحظي لا لأمن الإنسان، فتهاوت الاقتصادات الكبرى، وارتبكت المؤسسات الدولية بالرغم من توافر الثروة والعالمية، ووجدت الدول نفسها مضطرة للعودة إلى حدودها القديمة كي تحمي شعوبها. وجاءت سياسات ترامب لتعمق هذا التصدع، إذ أعادت أهمية مفهوم السيادة إلى الواجهة، مؤكدة ضرورة احتفاظ كل دولة بحقها في تقرير أولوياتها الاقتصادية والسياسية والثقافية بنفسها، ومحذرة من خطورة الاتكال على مراكز القوة العالمية. كما كشفت أن العولمة ليست حتمية وجوديه، هي مجرد مشروع سياسي تم وضعه وفقا لمصالح الأقوى. ومع ذلك، بقي العقل العام أسيرًا لآليات إعلامية واقتصادية أعادت تشكيل إدراك الفرد، فصار أكثر ميلاً للاستهلاك وأقل قدرة على التفكير المستقل، مما جعل الأزمات تتوالى دون أن تولد وعيًا جديدًا أو قدرة على قراءة الأسباب العميقة للاضطراب في هذا المشهد الذي يتراجع فيه العقل لصالح السوق، يصبح وجود مقاومة فكرية ضرورة، فالتنوير هنا معني باستعادة مركزية العقل كوسيط يحمي الذات من الاستلاب ويعيد بناء علاقتها بالعالم على أساس نقدي.
هذا المفهوم لم يُسمح له أن يستقر في الوعي العربي على نحو صحي، إذ جرى تشويهه عمدًا وتصويره تهديدًا، وتفريطًا بالأصالة أو انحلالًا أخلاقيًا. ولعل جذور هذا التشويه تمتد إلى اللحظة التي بدأ فيها الوعي العربي الحديث يتشكل تحت ضغط ثنائي؛ إرث سلطوي يرى في العقل تهديدًا لبنى الطاعة، وإرث استعماري جعل كل خطاب عقلاني يبدو امتدادًا لهيمنة خارجية، فدخل التنوير الوعي الجمعي محاصرًا بين خوفين متقابلين، الخوف من سقوط الموروث والخوف من الاستتباع للآخر.
وقد بدا هذا التشويه كاستراتيجية ممنهجة وظفتها السلطات والمؤسسات المحافظة التي أدركت أن أي توسيع لفضاء العقل يؤثر على قابلية الأفراد للطاعة العمياء التي تعتمد عليها؛ فالمشروع التنويري يفتح المجال للمساءلة، ويكشف تهافت الخطابات الجاهزة، ويقوض احتكار السلطة. ولصالح تلك القوى جرى تحويل التنوير إلى كلمة مُريبة تُقدم بوصفها رمزًا للتغريب أو هدم الثوابت، بحيث تُفرغ من دلالاتها ويُهمش حضورها في المجال العام. فالأنظمة العميقة وجدت في هذا التشويه ضمانًا لاستمرارها، والمؤسسات الدينية التقليدية رأته حفاظًا على سلطتها التأويلية، والبنى الاجتماعية المحافظة استخدمته لفرض انضباط يضمن لها استدامة النفوذ. لذلك ربما يكون المأزق الذي سقط فيه التنوير بسبب نجاح خصومه في تشويه معناه قبل أن يتاح للناس اختبار أثره في حياتهم.

اترك رد