ماهيّة الذكاء الإصطناعي …. د . أنور ساطع أصفري

منبر العراق الحر :المحور الأساسي الذي يتوقّف عنده الإنسان ، هو مفهوم الذكاء الإصطناعي وإمكانية امتلاكه ذكاءً يفوق بكثير ذكاء أي مخلوقٍ بشري . وجميعنا تابع كيف إنطلقت أصوات تتحدّث عن مخاوف وتطالب بإيقاف تطورات الذكاء الإصطناعي لحين توفّر الثقة على الأقل . نحن لا يُمكننا التقليل من شأنِ الذكاء الإصطناعي ، وعلينا أن نتقبّله ، ونُرحّبَ بهِ ، ونحاولُ اكتسابه كرفيقٍ على دربِ الحياة ، والعمر الذي نحياه ، كي نتعلّمَ كيفَ تتمّ المعاملة معهُ ، فالأمر ليس ببساطةِ كتابةِ أوامر هو الذي سيقوم بتنفيذها بسرعة فائقة . فكلّما تمكّنا من حسمِ الحوار معه ، بكلِ تأكيد ستكون النتائج أكثر إيجابية ، وأكثرُ حضوراً وتقبّلاً . جميعنا يتذكّر على سبيلِ المثال ، أنّه ومنذ سبعون عاماً ، كيف تخلّى كثيرٌ من العمال والموظفين عن عملهم في مقاسم الهاتف اليدوي ، وذلك بسبب تطوّر أجهزة التكنولوجيا وابتكار أجهزة جديدة أكثر تطوّراً . كما ظهرت في القرن الثامن عشر أجهزة معقّدة يصعبُ على المواطن البسيط فهم آلية عملها ، ولهذا السبب كثيرون فقدوا عملهم ، ومنهم من سخر منها ، وآخرون طالبوا بمواكبة هذا التطور وتلك الآلات لأنها تحتاج لمن يُشرف عليها ويتابعها وعملها . في عام 1950 قام العالم ” آلان تورينغ ” ، بتقديم اختبار ” تورينغ ” الذي يُقيّم الذكاء لجهاز الكمبيوتر ، ويقوم بتصنيفه ذكيّاً في حال قدرته على محاكاة العقل البشري ، وبعد ذلك بعام تمّ إنشاء أول برنامج يستخدم الذكاء الإصطناعي من قبل ” كريستوفر ستراشي ” الذي كان يشغل منصب رئيس أبحاث البرمجة في جامعة إكسفورد ، حيثُ استطاع تشغيل لعبة ” الداما ” عبر جهاز الحاسوب ، وقام بتطويرها . ثُمّ صممّ ” أنتوني اوتنجر” من جامعة ” كامبريدج “: تجربة محاكاة لعملية التسوّق التي يقوم بها الإنسان في أكثر من متجر ، من خلال جهاز كمبيوتر ، وكان الهدف من التجربة هو قياس قدرة الكمبيوتر على التعلّم . وكانت أول تجربةٍ ناجحة لما يُعرف بتعلّم الآلة . وفي عام 1956 وفي كلية ” دارتموت ” تم الإعلان عن مفهوم الذكاء الإصطناعي بشكلٍ رسمي ، من قبل ” جون مكارثي ” الذي نظّم ورشة عمل لمدة شهرين ، جمع فيها الباحثين المهتمين بالشبكات العصبية الاصطناعية ، ولم تؤدِّ الورشة إلى أي إبتكارات جديدة ، لكنها جمعت بين مؤسسي علم الذكاء الاصطناعي ، ومن ثُمّ بدأت البحوث في مجال الذكاء الاصطناعي بكثافة ، وتمّ إنشاء مراكز أبحاث متعلّقة به ، أي بالذكاء الاصطناعي ، حيث إهتمت هذه المراكز بابتكار أنظمةٍ تجد الحلول للمشكلات بكفاءة ، مثل نظرية المنطق التي تُعدّ أول برنامج للذكاء الاصطناعي . في عام 1979 تمّ بناء أول مركبةٍ مُسيّرة عن طريق الكمبيوتر ، عُرِفت باسم مركبةِ ستانفورد . وفي عام 1997 تمكّن أول جهاز حاسوب من التغلّب على منافسه البشري الخبير في لعبةِ الشطرنج . وفي بداية القرن 21 أصبحت الروبوتات التفاعليه مُتاحة في المتاجر ، وروبوتات تتفاعل مع المشاعر المختلفة ، وروبوتات تقوم بمهمة البحث والاستكشاف . في بداية الألفية الثانية كان للأنترنيت ظهوراً قوياً ، وأصبح يجولُ بالبشرِ حول العالم ، ويسمح لهم بالتواصل وبالتجارةِ والتعليم ، وكل هذه الأمور كانت تتم بكبسة زر . وكثيرون هم الذين تفاجأوا ، وكثيرون هم الذين تعلّموا ، وكثيرون أيضاً هم الذين شجّعوا . والذين يُتابعون الأمور شاهدوا في مايو 2023 كيف استطاع الذكاء الاصطناعي وبكل دقة أن يُطلق فيديوهات وصور تم إنجازها بحرفية دقيقة ، أدّت إلى تراجع البورصة الأمريكية . ومن تم الإعلان من الإعلام الأمريكي إنها بعض مخاطر الذكاء الاصطناعي . مثلها ما حدث في إبريل 2023 وأيضاً عن طريق برامج الذكاء الاصطناعي الذي روّج من خلال فيديو في غاية الدقة ، أظهر العنف المُستخدم لإعتقال الرئيس الأمريكي السابق ” ترامب ” ، في أحد الشوارع الأمريكية ، كما روّج أيضاً صور وفيديوهات دقيقة لبابا الفاتيكان وهو يرتدي ملابس لا تليق ببابا الفاتيكان ، كل هذه الأمور هي شكلٌ من أشكال مخاطر الذكاء الاصطناعي . حيث من المعلوم أن الذكاء الاصطناعي بإمكانه التعرّف بدقة على الصور وبسرعة ، وكذلك ملامح الوجه وأخاديده ، والتنبؤ بأسواق الأسهم أو البورصة . كما يسعى علماء الكمبيوتر إلى تطوير خطواتهم بهدف إستنساخ شبكات عصبية تُشابه أو تُحاكي الشبكات العصبية عند البشر . آخذين بعين الاعتبار أنّه كلّما زاد تأثير الذكاء الاصطناعي على حياتنا ، كلّما تراجع إدراكنا وفهمنا واستيعابنا لطريقة عمل الذكاء الاصطناعي ، وكيف يصل إلى القرارات وإلى النتائج التي تؤثّر علينا . ومع ذلك فسوف يستغرق الوقت طويلاً حتّى تستطيع هذه الأنظمة من تحقيق هدفها ، فضلاً عن معرفة مكنوناتها وأسرارها . الذكاء الاصطناعي نجح في إقتحام مجالاتٍ عدّة مثل الطب والتعليم ومجال السيارات ، والمجالات العسكرية ، والإعلام والصحة وعلم النفس ،ومجالاتٍ أخرى ، وهذا من شأنه أن يحدث تطوراً نوعيّاً وتأثيراً جذرياً على الإنسان والإقتصاد الدولي . وبنفس الوقت نأخذ بعين الإعتبار أن أنظمة الذكاء الاصطناعي ستكون بحاجةٍ ماسّة إلى عددٍ كبيرٍ من الوظائف التي تتطلّب إلمام متفوّق في مجال التقنية والمعرفة هناك من يقول بأنه هناك تحذير واحتمال فقدان ملايين البشر عملهم في المستقبل بسبب الذكاء الاصطناعي . ونحن بالتالي نتساءل ، هل مستقبل الذكاء الاصطناعي سيؤثّر بشكلٍ واضحٍ على ثوابت حقوق الإنسان ؟ . جميعنا يعلم بأن الشبكات العصبية هي علمٌ وأنظمةٌ معقّدة جداً ، فهناك طبقة من المدخلات ، يوازيها طبقة من المخرجات ، وبالتالي هناك طبقةٌ مخفيّة ، وبالإمكان تطوير هذا الجانب في الذكاء الاصطناعي ، بحيث يصبح بمقدوره التعامل ذاتياً دون الحاجة إلى أي تدخلٍ بشري كبير . نحن ندرك بأن المخ وشبكاته العصبية لا يزال إلى حدٍ كبير مجهولاً ، وخاصّة كيفية عملها كنموذج ، منذ ربع قرن لاحظ ” جيمس أندرسون ” الذي كان يعمل على الشبكات العصبية والبحث في مجال المخ ، وقال ” حقيقة إننا لا نعرف ماذا يحدث . ، ونجهل تماماً كيفية عمل المخ البشري ” . الذكاء الاصطناعي يحاول التغلغل إلى الشبكة العصبية البشرية ويستنسخها ، لكنها مُعقّدة ، ومن الصعب فهم حيثياتها ومجرياتها ، لأنّها تحسُّ في المقام الأول ، لذا لن يتمكّن منها سوى الإنسان . بكلّ تأكيد سباق التسلّح بالذكاء الاصطناعي يزداد يوماً بعد يوم ، والإبتكار التكنولوجي على هامشه قد يكون مخيفاً . لكنه بإمكاننا الاستثمار في تعلّم كيفية العمل جنباً إلى جنب مع التقنيات ومع التكنولوجيا وبالتالي التعامل معها كوسيلةٍ وليس كمعولِ هدمٍ وتهديد ، وبالتالي سيجعل البشر من أنفسهم أكثر قيمة وبالتالي سيقلّ قلقهم بالمحصّلة . فمن حيث المبدأ ، إن الذكاء الاصطناعي يجعل الآلة قادرة على التفكير والتخطيط من تلقاء نفسها ، وبشكلٍ يكاد يكون مشابهاً لعملية التفكير عند الإنسان ، وهذه كلها دراسات بحثية تحتاج جهداً مضاعفاً لتحويلها إلى واقعٍ معمولٍ به . والباحثون في مجال الذكاء الاصطناعي يعملون للوصول إلى ذكاءٍ متميّزٍ لدى الآلات ، يجعلها أكثر ذكاءً من الكائن البشري . ومع ذلك نقول ، إذا شعر الناس بالقلق من الذكاء الاصطناعي بدلاً من العمل لتحسين مهاراتهم في هذا المجال ، فإنّ ذلك سينعكس عليهم سلباً أكثر من الذكاء الاصطناعي ذاته . بإمكان أنظمة الذكاء الاصطناعي في المستقبل أن تكون أكثر قدرة على حماية البيانات الشخصية لكل فرد بعيداً عن الإختراق أو السرقة أو التزوير ، كما بإمكانها حينها أن تصبح قادرة أيضاً على العناية بكبار السن والأطفال ، وإنجاز الأعمال المنزلية من جهة ، ومكافحة الحرائق وإزالة الألغام من جهة أخرى . كما يمكنها التوصّل إلى إنتاج سيارات ذاتية الحركة وبشكلٍ كامل ، بحيث تسيطر أنظمة الذكاء الاصطناعي على السيارة بمجملها . ومن ناحية تقنيات التعلّم العميق في مجال الذكاء الاصطناعي والشبكة العصبية ، أكّدت الباحثة الإعلامية ” بياتريس فازي ” (بأن تقنيات التعلّم العميق تكون عادة مبهمة أو غير مقروءة حتّى للمبرمجين الذين صنعوها في الأصل ). حيث أن أنظمة الذكاء الاصطناعي لا تستطيع أن تُغيّر نظام عملها أو تطوّره من تلقاء نفسها ، فهي تحتاج إلى تدخلٍ بشري . وأنظمة الذكاء الاصطناعي أيضاً لا تعي الثوابت والقيم والأخلاقيات والأدبيات المتوفّرة عند الإنسان ، فهي تُنفّذ البرامج التي صُممّت لها بغضِ النظر إن كانت مفيدة أو ضارّة . وأنظمة الذكاء الاصطناعي غير قادرة على الابتكار والإبداع أو الإستجابة للتغييرات بدون إعادة برمجتها من قبل البشر . جميلٌ أن يلعب الذكاء الاصطناعي في تشكيل معرفتنا وفهمنا أكثر للعالم ، واكتشافاتنا ومعاملاتنا ، وطرق التعلّم وسُبل المعرفة والاستهلاك والتفاعل مع المحيط ، كي يبقى الفهم والإدراك متنامياً كما المعرفة . لذا لا بُدّ من صياغة قنونٍ واضح للذكاء الاصطناعي ورسم معيارٍ دولي آمن وموثوق ويتّسم بالأخلاقية على الأقل . والوفاء بمتطلبات البيانات عالية الجودة ، وإمكانية التتبع والشفافية ، إضافة إلى الرقابة البشرية ، بهدف الحد الفعلي من مخاطر تهدد الحقوق الأساسية والسلامة العامّة والإنسان .

اترك رد