منبر العراق الحر :
ها أنت تخرج من أنفاقك الداخلية السرية والتجوال في ممراتها لشهور طوال، تترك نثار أحلامك الرمادية بين جدران الأسمنت في زنزانة 29 من الشعبة الخامسة .
تدخل الآن قلعة ” عربت ” تتنفس هواء نقيا تبعثه الحقول البرية المنبثقة فوق التلال المنخفظة المحيطة بقلعة السجن ، الشمس أقرب لك من أي وهم آخر ، تتعرف على جسدك مرة اخرى تعالج أوجاعه وجروحه بتدرج توحي به الألفة مع المكان ، هذه القلعة المعزولة والمحاطة بأبراج الحرس والأسلاك الشائكة صرت تتخيلها منتجعا بالمقارنة مع الشعبة الخامسة، خصوصا بعد حصولك على جهاز راديو صغير وكتب منتقاة تصلك دون حواجز ينقلها لك نائب العريف محمد رويشد .
جاءتك فيروز في الصباح العربتي لتوقظ فيك كائنا آخر ، ساعة مبكرة من النهار يغسلك صوت فيروز من صدأ الاحلام الذي ران على خيالك ومسامعك وروحك، ساعة تدخل فيها النهر للتطهر والنشوة حين يختفي المكان من حولك وتصعد بسلالم السحر نحو اللامكان واللازمان، سباحة في مدارات الصوت والموسيقى وكأنك تنتقل من موجة ضوء الى آخر ، محطات لتمارين تنظم العقل بسحر صوفي يؤثث جنته تحت ظلال السماوات الفيروزية .
الاستغراق مع فيروز تتطابق كثيرا مع صلاة الصوفي أو اغتسال المندائي بشواطئ الفرات، صوت يؤجل الشعور بالوحشة والغربة ويعالج آلامك التي جئت بها من السجن، تشعر أن الحياة مع هذه الموسيقى الفيروزية ينبغي أن تعاش ، الموسيقى .. كيف لم يضعها الرب كأغراء للجاحدين ضمن وعود جناته للبشر ؟
ساعة صباحية تتجول فيها بين البحار والحقول الخضراء ، تأخذك من الخريف لعوالم الثلج ثم تعيدك للربيع وترسو بك قرب شبابيك الحنين والوجوه والأزمنة، تطرقها برفق يمازج النغم الفيروزي لتدرك في شهقة يأس أنك في خمرة فيروزية سرقتك على سحابة من خيال ترى فيها الوجوه التي تشتهي .
سبعة شهور كانت فيروز تدخلك كل صباح في سونار لتعرف ماذا تحمل روحك من طاقة خفية ، وكيف لهذين الأذنين أن تعيد تعريف الإنسان، وأن أي معنى أو وجود ثقافي وحضاري يبقى ناقصا بدون موسيقي، بل أن الحياة في جوهرها موسيقي ومن لم يضبط إيقاعها وهامونية توزيعها تصبح نشازا وصخبا. وتعرف أيضا معنى أن يهجر أعظم عقل فلسفي بالتاريخ ” هيجل ” قطاع الفلسفة ليكتب موسوعته الجمالية وكتاب فن الموسيقى .
*زمان آخر .
نغسل صباحاتنا بهمس سماوي يرتل آيات النغم المنبثق من روح باحثة عن شيء ما ، هاربة من خوف تبدل الذات ، الحب ، الحرية ، والإستقرار عند لحظة وجد ولحظة وطن بلا كراهية .
فيروز الرحباني الرصيد الأثمن لدى العرب من المحيط الى الخليج ، تحتفل الأوساط الجمالية بذكرى ولادتها ،حبيتك بالصيف ، حبيتك بالشتا ، رسول الحب والنقاء وبعض الثقة بالإنسان الذي هشمته الأنظمة والحروب والمجاعات والطائفية والتهجير وتاريخ من الكفر والرعب والجنون ، إنسان الشرق لم يزل ينبض بالحب ويبتهج لتفتح أكمام الورد وحين ينزل المطر !
لم تكن فيروز صوتا ً موسيقيا ً اخآذا ً فقط ، إنما نهر دافق بأعذب مشاعر الروح يفيض حنان ويمتد في الأعماق كل بحسب روحه وطاقتها، صوت نهرع له في الصباح وفي كل الأوقات ، في الغربة أو البلد ، وفي السؤال عن الولد ، وشو دخلي بالبلاد ..الله يخلي الأولاد .
طاقة وجد لايعادلها كلام ” زعلي طول أنا وياك ” عشتار العصر المأزوم تقول أنك أقوى ، لأنك الأجمل فأبدأ نهارك بفيروز ليكون نهارا ً فيروزيا ً يتنشق روائح البحر والماضي وبعض حكايا البحارة في تضاريس الرمان ، ثم يلقى لؤلؤة جديدة تضيء حلم مقبل .
تأخذك أحيانا أغاني ” خوليو اكليسياس ” بارتحالات وجد وتجل لذكريات مقدسة وعطور أزمنة ماضية، انكسارات ولحظات فرح هاربة، لكن سرعان ماتعود الى عوالم فيروز لأنها تؤلف أرصدة الوجود الجمالي والروحي لرحلة سنوات وكأنها بدأت منذ استيقظ الوجود ، لن تصنع لنا أغاني وأنغام راقية ، أنها تخلق لنا أرواحا ً متحركة راشحة بكل ما يبعث على التفاؤل وحب الوجود والتشارك بإثرائه ، فيروز بعض رصيدنا المتبقي لنقامر به في جولات الخراب والممنوع والرثاثة .
تحية للسيدة أم زياد بذكرى ميلادها المجيد ، سيدة المقام الأول في بناء الأرواح و السحر والفن ، ضوء الشرق المتبقي من زمن البهاء والسمو والعذوبة ايضا ً.
*عربت قضاء يقع في السليمانية بكردستان العراق وفيه سجن صمم على طريقة القلعة .
*خوليو أكليسياس مغني اسباني . واحد أشهر المغنين بالعالم .
منبر العراق الحر منبر العراق الحر