منبر العراق الحر :
مع بداية كل شهر تراوده تلك الفكرة اللذيذة في زيارة مطعمة المفضل في منطقة المنصور وتناول وجبة كاملة من “الكباب العراقي” مع أسطول ضخم من المقبلات ومشروبه الأثير “لبن أربيل المدخن”، فيما يزداد عقله الباطن في الإلحاح عليه، بأنه يستحق هذه المكافأة وسط المجهود الذي يبذله في توفير احتياجات المنزل.
دلف هذا المكان لأول مرة في منتصف التسعينيات، حين كان طالبا في الثانوية ويعمل بذات الوقت في ورشة لإصلاح كل أنواع أجهزة التكييف، وهي مهنة مربحة في زمن كان التصليح هو السائد، وشراء الأجهزة الجديدة نوعا من الترف أو الخيال.
يتذكر عامل الصالة “كاكه شيرزاد” بابتسامته ولغته العربية الركيكة، وهو يضع أمامة 4 أسياخ من الكباب الدسم، ويتواطأ معه بسيخ إضافي من شحم الغنم المجاني، وسط مهرجان من أطباق لتبوله والحمص بطحينة والطبشي والمطاطة المشوية، بينما ترقد إلى جانب المنضدة 3 أرغفة من الخبز الحار بالسمسم.
الإحساس بالاختناق وعدم القدرة على ارتشاف قطرة واحدة من الماء، هو الذي يسيطر عليه في كل مرة ينتهي من وجبته التي حدد لها يوم الخميس موعدا من كل أسبوع، حيث يمضي بقية النهار في التسكع في شارعي الأميرات و14 رمضان، في محاولة لمساعدة معدته وأمعائه من أجل استقبال الضيف الأخير في هذه السهرة وهو قدح الدوندرمة من مرطبات الرواد.
لا يمكن مقارنة الدنانير التي كان يتقاضاها في ذلك الزمن، بالراتب الضخم الذي يحصل عليه حاليا وهو موظف في وزارة مرموقة، كما لا يمكنه مقارنة مسؤوليته شبه الخالية من أي التزامات مالية في التسعينيات، مع زوجة وأربعة أولاد ينتظرون منة قائمة لا تنتهي من الطلبات التقليدية والمستحدثة.
قبل انتهاء دوام يوم الأربعاء، انزوى وحيدا لإعداد ميزانية الشهر، وهي المهمة التي يفضل تفصيلها بدقة باستخدام الورقة والقلم وتصويرها والاحتفاظ بها في هاتفه النقال لمراجعتها لاحقا.
بدا من المصاريف الكبرى: مبالغ اشتراك المولد، والإنترنت، وأقساط المدرسين وخطوط النقل لأولاده الثلاثة، ومبلغ لا يقل عن ربع الراتب لشراء الفواكه والخضروات والخبز، والقسط قبل الأخير للثلاجة الجديدة التي دخلت بشكل مفاجئ على الحسابات، بعد العطل الذي أصاب السابقة والتي التحقت بطابور طويل من الأجهزة التي ذهبت ضحايا لتردي الكهرباء وهي من المعضلات الأبدية في العراق.
أحس بتنفسه يتسارع كلما أوغل تقطيعاً في جسد الراتب: الزوجة تحتاج مبلغاً لتغيير الستائر، والولد الأكبر يريد استبدال هاتفه الذي لم يعد يساعده في مواكبة دروسه الاونلاين_بحسب زعمه_، وهو يريد استبدال زيت السيارة وشراء زوج من الإطارات الجديدة لها.
هل انتهى فعلا من التزاماته؟ بالتأكيد لا، فهو يضع مبلغا للطوارئ، وآخر بسيط جدا لاحتياجاته الشخصية التي لا تتعدى السكائر، ومساهمة مالية مع أصدقاء العمل في شراء متطلبات الشاي والقهوة، والتي يتم إعفاؤه منها في معظم الأحيان، لأنه “صاحب مورد مالي وحيد” ضمن الزملاء.
أعاد حساباته مرة ثانية، واستقر على شعور من الفرح والانتصار وهو يتأكد من وجود فائض مالي يمكنه بالكاد من وليمة الكباب وقدح الدوندرمة، وبدا يتخيل ابتسامة “كاكه شيرزاد” ورائحة اللحم العراقي الخالص، وأغاني ياس خضر التي لا تنقطع عن جنبات مطعم أيام الشباب والبال الخالي من المسؤوليات.
قرر أن يحقق أمنيته في نفس اليوم، وقبل أن تطرأ أي مستجدات تلتهم الكنز الذي بحوزته، وأخذ يفكر بالأسباب التي سيقدمها لعدم تناول الغداء أو العودة إلى البيت حتى بعد وقت العشاء، غير أن حبل أفكاره أنقطع بواسطة زميل يقوم بمهمة جمع مبلغ مالي لزميل ثالث سيقوم بإجراء عملية جراحية عاجلة.
دفع معظم المبلغ الفائض لديه من الراتب، وابتسم بمرارة وهو يحدث نفسه بأنه ليس هناك أجمل من الغداء مع العائلة، وأن كان على حساب نزوة من الزمان الماضي، فيما كان صوته الداخلي يعتذر من كاكه شيرزاد وياس خضر ومرطبات الرواد، وغيرهم من الأشخاص والأماكن التي لم يعد لهم حيزاً في حياته، أو نصيبا من مورده المالي الوحيد.