منبر العراق الحر :
مساء تشريني جميل جئت مبكرا الى مختبر التحليلات المرضية الذي اعمل به كعادتي كل يوم , امارس طقوس خلوتي بارتشاف قدح من القهوة واستثمر الوقت في تصفح هاتفي النقال قبل ان يبدأ العمل , كسر الصمت صوت اجش , رجل عجوز في العقد السابع من العمر يتوكأ على عصا خشبية , القى التحية بصعوبة بالغة ثم جلس متهالكا على الكرسي المخصص لسحب الدم , يلتقط انفاسه ونظراته الدامعة تتحدث بألف لسان , ثمة كلمات عنيدة تحجرت تحت لسانه وأبت ان تفارق شفتيه الذابلتين , حالته تستدعي الانتظار والتريث الى ان يستريح , بادلته نظرات ودودة وفي قلبي مشاعر الشفقة تعاطفا مع محنته , ترتسم على وجهه رحلة الزمن الصعب وأنفاق رسمتها الشيخوخة بلؤم , قبل ان يتفوه بكلمة مسح لحيته البيضاء , ناولني بأصابع مرتجفة ورقة دون عليها اسم التحليل المطلوب , نوع التحليل هو صورة للدم , رحبت به ثم سحبت له عينة الدم , بينما كنت منشغلا بانجاز التحليل تنحنح ثم قال : اود ان اسألك , اعتقدت انه يسألني عن وقت التحليل او علاقته بحالته المرضية او شيء من هذا القبيل , قال : ما هي توقعاتك عن الانتخابات الاخيرة ؟ , وهل هي المنقذ لمحنة الوطن ؟ , اذهلني جداً بهذه الاسئلة , رجل يتأرجح على كف الموت ينسى محنته ويهتم بأمر الوطن , يلتقط انفاسه بمشقة وهو يترقب اي جواب يسعف تساؤلاته , يبدو ان الوطن ومأساة شعبه تشغل حيز واسع من اهتماماته , يعتبر هموم الناس اهم من حالته الصحية الحرجة .
قلت : ماذا يعنيك الامر ؟ , الايام المقبلة تتضح الامور ( خبر اليوم بفلوس بكرى بلاش ) , ندعوا من الله ان يحقق لهذا الشعب كل امنياته وتستجيب الحكومة الجديدة لكل طلباته , قاطعني بالقول : جوابك يثير الريبة ويعبر عن عدم اهتمامك بما نمر به من دمار وخيبة امل , قلت له بشيء من المزاح وتلطيف الاجواء لكي اخفف عنه وطأة الحزن واليأس : ما شأنك انت بالانتخابات ؟ , هل اسمك ضمن قائمة المرشحين على مجلس النواب ؟ , بانت على محياه البائس شبح ابتسامة سرعان ما تلاشت وعاد الى ذلك التجهم والشرود , بعد لحظات قال : هكذا انتم اصحاب المهن الطبية لا تفكرون إلا في كنز الاموال , انتم في عالم آخر مليء بالجشع ازاح من قلوبكم الرحمة وحب الناس , انتم لا تختلفون عن لصوص السياسة في ذبح الشعب من الوريد الى الوريد , قلت : بالعكس انا متعاطف معك تماما وأشاركك مواجع هذا الوطن وأبناء شعبه , لكن اثار حيرتي اهتمامك بالوطن دون ان تتحدث عن حالتك الصحية , رجل على حافة الموت وهو يفكر بمستقبل الوطن , اي مستقبل تتحدث عنه وابواق رحلتك الاخيرة تدق بعنف , جعلتني اقارن بين موقفك وموقف الشاعر ابو فراس الحمداني الذي قال ( اذا مِتُ ظَمآناً فلا نزلَ القطرُ ) قال : دعك من ابو فراس ولا تذكرني ببعض الشعراء الذين يتملقون للسياسيين والحكام ويمنحونهم صفات وألقاب لا يستحقونها , اسمع استاذ سأحدثك عن اسباب اليأس والحزن في قلبي : يشغل بالي قلق مشروع على مستقبل اولادي الذين اكملوا دراستهم الجامعية , ما الذي يحصل لهم بعد موتي , الكبير ماجستير علوم يعمل في بيع السجائر على ارصفة الشوارع وولدي الثاني بكلوريوس علم النفس يعمل بأجور شهرية مع عمال النظافة والثالث بكلوريوس اقتصاد يعمل في البناء وبعض الايام يعود الى البيت دون الحصول على فرصة للعمل , وثروات البلد تُنهب بشكل احترافي ومنظم والناس تصفق للصوص وترجوا منهم خيرا , كل هذا القدر من الهموم جعلني لا افكر في نفسي , انا لم اطلب منك ان تشرح لي عن خطورة حالتي الصحية , هذا التحليل تعودت عليه بشكل متكرر قبل كل حقنة بالعلاج الكيميائي لأنني مصاب بمرض السرطان .
نهاد عبد جودة