العقل السياسي بين قيود الماضي وتحديات المستقبل …كتب رياض الفرطوسي

منبر العراق الحر :
في خضم التحديات التي تواجه العراق، تبرز أزمة العقل السياسي كأحد الأسباب الجوهرية التي تعيق مسيرة التحول والتقدم. رغم الإرث الحضاري العريق الذي يمتلكه العراق، فإن العقل السياسي يبدو عاجزاً عن فك قيود الماضي والابتعاد عن الأزمات البنيوية التي ترافقه منذ عقود. كيف وصلنا إلى هذه الحالة؟ وما هي أبرز ملامح الأزمة التي يعيشها العقل السياسي العراقي؟ مثل العديد من الدول العربية، عاش العراق لعقود طويلة تحت وطأة أنظمة شمولية كرّست عقلية التلقين وألغت التفكير النقدي. هذه الأنظمة أنتجت نخباً سياسية تعاني من عجز فكري، غير قادرة على تقديم رؤى جديدة للتعامل مع الأزمات. حتى مع سقوط بعض هذه الأنظمة، استمرت ذهنية الإقصاء والخصومة في الهيمنة على العقل السياسي العراقي، حيث تم استبدال شمولية الدولة بشمولية الأحزاب، مما أدى إلى استمرار الأزمة بثوب جديد . القادة الذين نشأوا في ظل هذه الأنظمة غالباً ما نقلوا معهم نزعة الاستبداد والارتجال إلى مواقع السلطة. هذا التحول لم يكن سوى امتداداً لأزمة أعمق تتجذر في غياب التراكم المعرفي وضعف الثقافة السياسية القائمة على الحوار والتعددية . تجلت أزمة العقل السياسي العراقي بشكل واضح في الخطابات التي تصدرها القيادات السياسية أو الدينية. خطاب التحريض والإقصاء أصبح هو السائد، في مقابل غياب خطاب البناء والتكامل. الجماعات المتطرفة مثل داعش، رغم قسوتها، استفادت من بيئة سياسية مأزومة لترويج خطابها الذي يستغل الدين كأداة لتحقيق مصالح اقتصادية وسياسية . نرى اليوم كيف يتكرر نفس القاموس اللغوي الذي استخدمه البغدادي في الموصل عام 2014 والجولاني في الجامع الأموي مؤخراً، حيث تظل العبارات المتكررة عن “الجهاد” و”الوحدة” مجرد غطاء لمشاريع الهيمنة والتسلط. هذا التشابه يكشف عن أزمة أعمق، وهي غياب خطاب سياسي قادر على مخاطبة الواقع بأدوات جديدة . الأزمة في العراق لا تنحصر فقط في الخطاب، بل تتجلى أيضاً في عدم القدرة على التفريق بين الدولة والسلطة. الدولة هي مؤسسة محايدة تخدم الشعب، بينما السلطة تمثل نظاماً سياسياً متغيراً. في العراق، تعرّضت الدولة للتفكيك بفعل الصراعات الداخلية والتدخلات الخارجية، حيث تحوّلت مؤسساتها إلى أدوات تخدم مصالح حزبية وطائفية على حساب الصالح العام . هذه التحولات قادت إلى تدمير ممنهج للمقدرات الوطنية، من المصانع إلى البنية التحتية، في ظل غياب رؤية استراتيجية لإعادة بناء الدولة ككيان جامع . إن الخروج من أزمة العقل السياسي العراقي يتطلب إعادة صياغة العلاقة بين الفكر والسلطة. يجب أن يتحرر هذا العقل من قيود الماضي ويبدأ في تبني مفاهيم جديدة تقوم على النقد الذاتي والتخطيط طويل الأمد . التحولات المطلوبة لن تكون سهلة، لكنها ضرورية. العراق بحاجة إلى قادة يؤمنون ببناء الدولة كمؤسسة، وليس كأداة للهيمنة. كما يحتاج إلى مجتمع مدني قوي قادر على مساءلة السلطة والمشاركة في صنع القرار . إن التحديات التي يواجهها العقل السياسي العراقي ليست معزولة عن التحديات العالمية، من الحروب إلى الأزمات الاقتصادية. لكن الطريق إلى الحل يبدأ من الداخل، من عقل نقدي يرفض الجمود ويبحث عن حلول تتجاوز القوالب الجاهزة. فقط عبر هذا التحول يمكن للعراق أن يواجه أزماته ويبني مستقبلًا يتناسب مع طموحات شعبه وإرثه الحضاري .

اترك رد