*القضاء العراقي بين شرعية الدولة ومناورات السياسة….* ناجي الغزي

منبر العراق الحر :
في المشهد العراقي المتأرجح بين الاستقرار والتوتر، يبقى القضاء حجر الزاوية في الحفاظ على الدولة ومنع انزلاقها في مستنقع التسويات السياسية. قرار المحكمة الاتحادية بإيقاف تنفيذ قانون العفو العام لم يكن انتصارًا لطرف على آخر، بل تأكيدًا على استقلالية المؤسسة القضائية ودورها في ضبط إيقاع التشريعات بما ينسجم مع الدستور والعدالة.
ورغم وضوح المسار القانوني لهذا القرار، يحاول البعض تسويقه كحدث سياسي يخدم أجندة طرف معين، متجاهلين أن المحكمة تتحرك ضمن سلطاتها الدستورية، وليس وفق رغبات القوى السياسية. إن تصوير هذا القرار على أنه انتصار سياسي للسيد نوري المالكي، أو هزيمة لمحمد الحلبوسي، ليس إلا تبسيطًا مخلًّا بالواقع وتعمدًا لوضع القضاء على سكة التسييس، وهو مسار خطير يهدد ركائز الدولة ويطعن في نزاهة المؤسسة الوحيدة القادرة على تحقيق التوازن في ظل الاستقطاب الحاد.
إن إلغاء القانون جاء في سياق منطقي، لكونه مثّل بمضمونه هبة مجانية للإرهابيين والمجرمين والسراق والفاسدين تحت غطاء التسويات السياسية، وهو تجنٍّ واضح على دماء الضحايا الذين دفعوا الثمن الأكبر في صراع العراق ضد الإرهاب والفساد. السماح بتمرير مثل هذا القانون لم يكن ليعني سوى إطلاق يد الفوضى وتبرير الجرائم تحت عناوين المصالحة، في حين أن العدالة لا تُبنى على حساب الأمن والاستقرار، ولا يمكن لأي تسوية سياسية أن تكون مبررًا لإفلات المذنبين من العقاب.
وفي هذا السياق، يأتي الهجوم العنيف الذي شنه محمد الحلبوسي على المحكمة الاتحادية ودعوته إلى “تظاهرات عارمة” ضد رئيسها جاسم العميري كمحاولة واضحة للضغط على القضاء والتأثير على قراراته. إن اللجوء إلى الشارع والتحريض ضد المؤسسة القضائية يعكس نهجًا خطيرًا في التعامل مع الدولة، حيث تتحول الخلافات القانونية إلى معارك سياسية تُستغل فيها الجماهير للضغط على مؤسسات يُفترض أن تبقى محصنة ضد التدخلات. هذا التصعيد، بدل أن يكون نقاشًا قانونيًا موضوعيًا، يكشف عن أزمة عميقة في فهم دور القضاء، فحين تعجز الأدوات السياسية عن تحقيق أهدافها، يصبح التحريض والتشكيك في شرعية المؤسسات استراتيجية بديلة، وهو ما يهدد أسس الدولة ويضعف ثقة المواطنين بالقانون.
إن التشكيك بشرعية المحكمة والترويج لفكرة أنها أداة بيد جهة دون أخرى ليس سوى محاولة لتقويض أحد أهم أعمدة الدولة الحديثة. فالقضاء، بطبيعته، ليس ساحة للمساومات السياسية، بل حارس للدستور وضامن لحقوق المواطنين. أي تلاعب بهذا الدور أو محاولة جره إلى حسابات ضيقة، سواء بدوافع سياسية أو طائفية، لا يعني سوى إضعاف الدولة نفسها، لأن فقدان الثقة بالقضاء يعني فتح الباب أمام الفوضى، حيث يصبح القانون مجرد ورقة تفاوض لا أكثر.
إن ما حدث مع قانون العفو العام يجب أن يُقرأ في سياقه الصحيح: القضاء العراقي قال كلمته، وانتصرت الدولة لمنطق المؤسسات، أما المزايدات السياسية فلن تغيّر من حقيقة أن القانون هو الذي يحكم، وليس المصالح العابرة أو المناورات الضيقة.

كاتب سياسي

اترك رد