منبر العراق الحر :
شهدت إيران تحولات جوهرية منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979 بقيادة الإمام الخميني، إذ انتقلت تدريجيًا من نظام أيديولوجي ثوري يركز على تصدير الثورة ومواجهة القوى العالمية إلى نظام دولة تقليدي يوازن بين المصالح الوطنية والسياسات البراغماتية. هذا الانتقال تجلى في العديد من المظاهر السياسية والاجتماعية، وصولا إلى الانفتاح على قضايا داخلية وخارجية كانت تُعتبر محرمات في زمن الثورة.
عندما تأسست الجمهورية الإسلامية، كانت تعتمد على أيديولوجيا ثورية ترفض أي نوع من التفاوض أو التعامل مع الولايات المتحدة، التي وُصفت بـ”الشيطان الأكبر”. وقد عبر الإمام الخميني عن هذا الرفض في مقولته الشهيرة: “إذا جلسنا مع الأمريكيين، فهذا يعني أن الأمريكيين على حق ونحن على خطأ”. كانت هذه العبارة بمثابة مبدأ أساسي يعكس عمق العداء الأمريكي-الإيراني الذي ظل لسنوات حجر الزاوية في سياسات النظام.
ركزت إيران في تلك الحقبة على تعزيز هويتها الثورية من خلال دعم الحركات المناهضة للغرب، والمقاومة الإسلامية، وتصعيد الخطاب المعادي لما تطلق عليه بالقوى الاستكبارية. كما قامت بإحكام قبضتها على المجتمع عبر فرض قوانين صارمة مستمدة من الشريعة الإسلامية، كان أبرزها فرض الحجاب على النساء والحد من الحريات الاجتماعية.
مع مرور الزمن، بدأت إيران تتبنى نهجًا أكثر براغماتية في إدارة سياساتها الداخلية والخارجية. هذا التحول جاء نتيجة عوامل متعددة، منها الضغوط الاقتصادية الناتجة عن العقوبات الدولية، والأزمات الاجتماعية، والحاجة إلى الحفاظ على النظام وسط التغيرات الإقليمية والدولية.
من أبرز مظاهر هذا التحول قبول إيران بالتفاوض مع الولايات المتحدة والقوى العالمية في ملفات حساسة مثل البرنامج النووي. رغم أن هذا كان يُعتبر خيانة للمبادئ الثورية في السابق والنهج الذي وضعه السيد الخميني ، إلا أن القيادة الإيرانية بررت ذلك بأنه ضرورة لحماية مصالح البلاد. الاتفاق النووي لعام 2015، الذي تم التوصل إليه مع القوى الكبرى، كان أحد أبرز الأمثلة على هذا التحول.
على الصعيد الداخلي، بدأت تظهر تغييرات اجتماعية تعكس انفتاحًا تدريجيًا. شهدت السنوات الأخيرة تخفيفًا نسبيًا للقيود المفروضة على الحجاب الإجباري، مع تزايد احتجاجات النساء ودعوتهن إلى حرية الاختيار. كما بدأت الدولة تتعامل بشكل أكثر تسامحًا مع مظاهر الحياة الحديثة، مما يعكس رغبة في التكيف مع تطلعات الأجيال الشابة التي تمثل نسبة كبيرة من السكان.
هذا التحول من نظام ثوري إلى دولة ذات سياسات براغماتية يشير إلى سعي إيران لإعادة تعريف نفسها كقوة إقليمية ودولية تتعامل مع الواقع بدلًا من الأيديولوجيا المطلقة. ومع ذلك، فإن هذا التغير لم يكن بلا ثمن. فهناك صراع داخلي بين التيارات المحافظة التي ترى في هذه التغيرات تهديدًا لقيم الثورة، والتيارات الإصلاحية التي تدعو إلى مزيد من الانفتاح والتغيير.
التحولات في الموقف من الولايات المتحدة والانفتاح الاجتماعي تعكس رغبة في مواكبة العصر، لكنها تفتح الباب أمام أسئلة جوهرية: بعد أن تفقد ايران هويتها الثورية ما هو شكل وهوية ايران الجديدة ؟ وكيف يمكن لدولة ولاية الفقيه ان تحقق التوازن بين الأيديولوجيا الاسلامية الشيعية ومتطلبات الدولة الحديثة؟
