قصة موت عباس النسر. ..قصة قصيرة …..فلاح المشعل

منبر العراق الحر :
موت عباس النسر كان صدمة لأهله وعدد قليل من أصدقائه وصحبته الذين تناقلوا الخبر غير مصدقين، رغم أن شخصية عباس النسر كانت معروفة على نطاق واسع، وتردد حكاياته في أكثر أحياء المدينة، إلا أن ظروف الحصار وانتشار مظاهر الفاقة والعوز عند غالبية الناس جعلهم بشغل لا ينال من اهتمامهم موت فلان أو اختفاء غيره، إذ تزايدت مؤخراً أخبار الموت والانتحارات، ما جعلها تفقد أثرها في نفوس الآخرين، ولا تثير الغرابة لدى غالبية جائعة منهمكة في تدبير قوت عوائلها، بل كان في الموت بعض الحل.
يقول الذين شاهدوا عباس النسر عند استلام رفاته وتشييعه، كان جسده أزرقا يميل إلى السواد، وحسب التقرير الطبي الذي جاءت به الشرطة إلى ذوي عباس يشير إلى تعرضه إلى لدغة أفعى، وعثر عليه من قبل دوريات شرطة الحدود بالقرب من الحدود السعودية وسط كثبان من الرمال، كانت المفاجأة أن يموت عباس النسر عاشق الجبال والسفر والتجوال في الصحراء وسط الرمال، شيء لا يصدق!
تروي الحكايات أن عباس النسر قد امتهن التهريب ما بين الحدود العراقية والسعودية وكذلك مع الحدود الأردنية والسورية، ولهذا السبب كان مطلوبا للحكومة، وقد داهموا بيت أهله وشقيقته أكثر من مرة، ولم يعثروا عليه، وقد حيكت العديد من القصص عن قدرة عباس النسر على الاختفاء والتواري عن أنظار رجال الشرطة والعامة أيضا، لم تكن مغامرات التهريب الخطيرة بدافع كسب المال فقط، إنما يشعره ببهجة وانتصار بكونه استطاع أن يفلت من عيون ورصاص حرس الحدود، عبور الحدود يكسب به حريته على التنقل وإلغاء الحواجز التي تضعها الحكومات على أرض الله الواسعة، كان يكره الحدود والقيود، ولا يخاف من رصاص حرس الحدود الذي أصابه مرتين، وأخطئه عدة مرات!
ما زلت أتذكر عباس النسر أياماً كنا سوية في الوحدة العسكرية خلال الحرب الإيرانية، وكانت مبادراته في التملص من الموت كفيلة بخداع من حوله، وفي إحدى المرات حصل أن اُصْطِيد نسر من قبل أحد الجنود الذي يجيدون حرفة الصيد البري للطيور. وأُهْدِي إلى آمر الوحدة العسكرية، وفكر حينها الآمر بتحنيط النسر، وجعله رمزا للفوج أو تقديمه هدية لآمر اللواء، وعندما تساءل العقيد آمر الوحدة إذا كان أحد يعرف بموضوع التحنيط، انبرى العريف عباس مدعيا أن في مدينته رجلاً مختصاً بتحنيط الطيور والحيوانات، وأن الموضوع يستغرق نحو عشرة أيام لإنجازه، وافق العقيد وحمل عباس ذلك النسر في صندوق خشبي، وذهب فيه إلى مدينته، وحين عاد بعد عشرة أيام صار عباس يحكي عن جماليات النسر بعد التحنيط، وكيف رفض صاحب محل التحنيط تسليمه إياه؛ لأنه كان رطبا وغير متماسك، ويجب أن يجف ويمكن أن يتسلمه بعد عشرة أيام أخرى. اقتنع آمر الوحدة بعد استماعه لكلام عباس، وذهب عباس بعد عشرة أيام، وتمتع بإجازة أخرى لمدة أسبوع، ولكم أن تتخيلوا إجازة سبعة أيام تبعده عن ظروف القصف اليومي والهجوم المباغت والواجبات في جغرافية جبلية تثير الرعب خصوصا في الليل والأشباح المتخيّلة، إذ لا تعرف العدو أين يكمن لك ليصطادك كمصدر المعلومة في حرب الجبهات الجبلية المتداخلة!
انقضى الأسبوع، وعاد عباس كالمرة الأولى بلا نسر، وكشف عن سبب مأساوي آخر يتعلق بعائلة شقيقة الفنان الذي يحنط النسر، معللا ذلك بسقوط صاروخ على بيتهم في البصرة، وموت الأخت وأولادها الثلاثة، وأن الرجل أغلق محله، ومكث مع ذويه في البصرة لإقامة مجلس العزاء وبقية المراسيم، وبسبب غلق المحل لم يستطع عباس المجيء بالنسر المحنط معه، المهم بعد أسبوع آخر قرر العقيد أن يرسل عباس لجلب النسر، وإذا عاد بدون النسر سوف يضعه بالسجن، ومنح إجازة خمسة أيام، لكن عباس جعلها عشرة أيام، وعاد بعدها بدون النسر، اهتاج العقيد وأخذ يرعد ويزبد ويصرخ بوجه عباس الذي وقف متماسكا، وحين صرخ عليه أين النسر؟ قال عباس دون تردد وكأنه أصبح موضع ملامة لا يستحقها، قال: يا سيدي ما باليد حيلة، فالرجل الذي حنط النسر تعرض لحادث سيارة وهو عائد من البصرة، ويرقد في مستشفى الكوت، يعاني عشرة كسور وأحدها بالجمجمة وهو فاقد الوعي، وإذا لم تصدق حكايتي أرسل معي من يتأكد من ذلك!
أمر العقيد بطرد عباس بعد أن استمع منه للحكاية الأخيرة، هز الرجل يده يائسا وقال؛ أمشي من أمامي وليّ ما أريد أشوفك وجهك بعد اليوم، ولا أريد حتى النسر!
خرج عباس من ملجأ العقيد مبتسما للنتيجة، ومباشرة سرني بنجاح المناورة، وبحقيقة أن النسر مات في أول إجازة، وليس هناك من يعرف بالتحنيط، ولا أحد مات وجميعها قصص أنتجها من خياله، ومنذ ذلك اليوم صار الجميع يطلق عليه اسم عباس النسر، هذه الكنية التي حاز بها على أكثر من شهرين إجازة أمضاها في بيته وقضاء أعماله الخاصة والسرّية التي لا يفصح عنها!
كان عباس حقيقة يتمتع بعيون نسر، فعندما نكون على إحدى قمم جبال في منطقة بنجوين غرب مدينة السليمانية حيث مقر فوجنا العسكري، كان يشاهد تفاصيل الشجر الصاعد على المنحدرات والوديان، وقد رسم طريق التسلل بين هذه الأشجار والاختباء بين الصخور، حتى يبلغ الوادي الذي يمكنه من الخلاص من الموت أو الأسر في حال حدوث هجوم إيراني مفاجئ يحاصر فوجنا، كان عباس النسر يحمل قناعات متناقضة، فهو يكره فكرة الموت، بل لا يؤمن بها، رغم أنه كان يصلي ويصوم، وحين سألته عن هذا التناقض ما بين عدم الإيمان بالموت والجنة والنار، وبين فروض العبادة التي يحرص على إقامتها بانتظام؟ كان يرد بقوله؛ أخاف بعدين صدك تطلع جنة ونار، وليش نخسرها، كان يردد هذا، وهو يعب ما بقي من زجاجة مشروب “الجن” الذي كنا نحمله معنا بسرية تامة للمواضع الدفاعية في الجبهة، لنطرد الخوف ونحصد على نوم دون رعب!
عندما انتهت الحرب وبدأ الحصار، ضربت المجاعات قطاعات واسعة من الشعب، وخصوصا من موظفي الدولة، اتجه عباس نحو أكثر المهن مشقة ومخاطرة، تهريب من وإلى العراق، وقد ابتكر طرقا سرية غير واردة في عمليات التهريب، خمور وأغنام إلى السعودية، ويأتي بالسكائر الفرنجية، وعندما تزدهر تجارة السلاح بالسوق السوداء، يتجه إلى تهريب السلاح، وتناقلت الأحاديث التي ترددت في مجلس عزاء عباس النسر، أن الرجل كان يأتي بمبالغ كبيرة (ربطات من الدولارات والفلوس العراقين) لا أحد كان يعلم أين يضعها، إلا أن أحاديث البعض في مجلس العزاء كشفوا عن حقيقة أن عباس كان يفرقها على عوائل المحتاجين والمعوزين المتعففين الذين مسهم الجوع، وما عادت معاشاتهم تسد رمقهم وعوائلهم، والعذر الذي يقدمه لهذه العوائل بأنها أموال زكاة تقدم من دول الخليج التي يدعي السفر إليها كلما غاب زمنا طويلا، عاطفة عباس كانت تفرد جناحيها العريضين، وهي تنثر الأموال على من يستحقها دون تردد، تلك الأموال التي يحصل عليها مقابل المجازفة بحياته، ويعتقد أنها التعريف الحقيقي للبطولة.
قصص وحكايات عباس النسر وتحدياته ومواقفه صارت ترويها العوائل والشخصيات التي انكشف غطاؤها المعيشي بعد موت عباس، في لدغة أفعى صحراوية بعد أن كان يكره الحرب والموت على قمم الجبال، كان يقول هذه القمم وجدت لكي نلامس السماء، ونقترب بالحوار مع الله، ونتنشق عطر الأرض والريحان والبابونج والزنابق والورد الجبلي، ذلك العبق الصاعدة من الوديان وعيون الماء ونديف الثلج الأبيض المقيم طيلة فصول السنة، القمم لم تُخلق للموت، لا أريد الموت هنا، خشية أن تفترس جسدي النسور كوني من فصيلتها، كان يرددها وهو يضحك، وفي حالة انتشاء!
المفارقة الصادمة، كيف تنتهي حياة عباس النسر في الصحراء بين كثبان الرمال وسموم الأفاعي، حكاية لم يصدقها أحد من الذين عرفوا عباس، وخبروا قصص حياته شجاعته!

اترك رد