منبر العراق الحر :
شهد المغرب مؤخرًا تنظيم مهرجان “موازين”، أحد أكبر المهرجانات الفنية العالمية، لكن ما لفت الأنظار هذه السنة هو الحضور الجماهيري الكبير لحفل مغني الراب المغربي “طوطو”، هذا الحدث لم يكن مجرد حفلة، بل كان مرآة عكست لنا مجموعة من الظواهر الاجتماعية والثقافية التي تستحق التأمل.
أول ما برز هو عدد الحاضرين الذي حطم رقما قياسيا، ما دفع البعض إلى القول إن “المغرب في الهاوية”، وإننا أصبحنا نحتفل بالمنكر ونصفّق للانحطاط، لكن هذا التعميم في رأيي مرفوض، لأن الواقع أكثر تعقيدًا من أن يُختزل في ليلة واحدة، نعم هناك من اختار هذا النوع من “الفن”، لكن لا يمكن تجاهل الجانب الآخر من المجتمع: الآلاف الذين خرجوا دعمًا لغزة، والمساجد التي تمتلئ بالمصلين في رمضان، والمواقف النبيلة التي تظهر في الأزمات كمثال التضامن الذي شهدناه أيام الزلزال، فالحياة بطبيعتها تقوم على الأضداد، فلا يمكن أن يكون الجميع صالحين أو فاسدين، بل هناك دائمًا أهل الحق وأهل الباطل، وهذه سنة اجتماعية لا تتغير.
النقطة الثانية التي أظهرتها هذه الواقعة هي التناقض الكبير داخلنا كمجتمع، فعلى مواقع التواصل الاجتماعي، انتشرت حملات لمقاطعة موازين وحققت تفاعلاً بالملايين، لكن المفاجأة أن كثيرًا من هؤلاء أنفسهم حضروا الحفل وشاركوا فيه! هذا يكشف عن انفصال خطير بين الخطاب الرقمي والسلوك الواقعي، بين ما نُظهره وما نفعله، نحن أحيانًا نرتدي قناعا افتراضيا لا يشبه حقيقتنا، فنعيش ازدواجية مرهقة بين الصورة التي نعرضها أمام الناس والواقع الذي نعيشه فعلًا.
وهنا يمكن أن نستحضر مقولة الفيلسوف كارل ماركس الذي قال: “ليس وعي الناس هو الذي يحدد وجودهم، بل وجودهم الاجتماعي هو الذي يحدد وعيهم” أي أن طريقة عيش الناس وظروفهم اليومية هي التي تُشكّل وعيهم واختياراتهم لا العكس، وبالتالي لا يمكن لوم الأفراد فقط، بل لا بد من النظر في الواقع الذي يدفعهم لإستهلاك هذا النوع من “الفن”.
لكن الأشد خطرًا مما نراه هو ما نبّه إليه سقراط حين قال: “الفساد الأخلاقي أخطر من الفقر” لأن الفقر قد نواجهه بالمال والعدالة، لكن انحراف الأخلاق يُفقد المجتمع روحه، ويجعل ما كان يُستنكر بالأمس أمرًا عاديًا اليوم. وهذا ما شاهدناه في الحفل، حين رُددت عبارات فاحشة علنًا دون حرج، بل أكثر من ذلك تم بثها في التلفازكأنها شيء طبيعي.
أما أفلاطون، فقد حذرنا من لحظة يصل فيها المجتمع إلى أن يُكرَّم من لا يستحق، ويُسكت الحكماء، وقال: “حين يحدث ذلك، انتظر سقوط المدينة(الدولة) ” لأنه عندما تختل المعايير، ويُمنح الباطل مجدًا، ويفقد العقل صوته، فإن المجتمع ينهار من الداخل دون أن يشعر.
وفي الختام ، لا يمكنني أن أنكر أهمية الفن، بل على العكس، أؤمن أن له دورًا عظيمًا في رُقي الشعوب وصقل الوعي، لكن ليس كل ما يُقدّم اليوم يستحق اسم “فن”، فالفن كما قال هيغل هو تجلي الفكرة في صورة حسية راقية، وهو عند أرسطو وسيلة لإثارة الانفعال بهدف التطهير، لا مجرد إثارة الغرائز وملئ الفضاء بالكلام الفاحش أو تشجيع على الإدمان والرداءة، ما رأيناه لا يُعبّر عن فن حقيقي، بل عن أزمة ذوق، وانفصال عن المعنى، واحتفاء بالمؤقت بدل الخالد.