منبر العراق الحر :
كانت ليلة كئيبة ومرهقة وهي الاخيرة من اسبوع الخفارة في احد مستشفيات كركوك , كنت خافرا في المختبر ومصرف الدم معا , في صباح اليوم القادم يستلم الخفارة زميلي كاظم لمدة اسبوع ايضا .
تكاثر المرضى في تلك الليلة على نحو مذهل ، اقبلت سيارة اسعاف تحمل ثلاثة اطفال , تعرض هؤلاء الاطفال الى انفجار لغم ارضي في هيكل غير مكتمل البناء في احد احياء المدينة , ذهبت الى صالة العمليات الصغرى للطوارئ لغرض اخذ عينة الدم لتحضير قناني الدم المطلوبة , وقفت قرب احد الاطفال , مسكت يده , كان فاقدا للحياة , اخبرت الطبيب الذي كان منشغلا بالطفل الاخر , كانت لحظات مؤلمة عندما مسكت يدي والدة الطفل وهي تتوسل بي ان لا اقول انه ميت , كانت تطلب مني ان اضرب على صدره عسى وان تعود اليه الحياة , كالمجنونة تعانق صغيرها الميت ثم تذهب الى الطفل الآخر تقبله وتدور بينهما بحركات تثير الحزن في قلوب المتواجدين , ادركت ان الطفلين هما اخوين , تمكنت بصعوبة من اخذ عينة الدم من طفلها الثاني , كان الطفل الثالث بحالة مستقرة تقريبا , حيرتي كانت كبيرة بين تعليمات ادارة المختبر ومصرف الدم المشددة بأخذ مستمسكات من ذوي المرضى في حال صرف الدم لهم لضمان تعويضه , لقد صرفت ثلاثة قناني دم لذلك الطفل دون ضمانات , وجدت من الصعوبة ان اطالب المرأة المنكوبة باي ضمان , بقيت على تواصل مع هذا الطفل الذي هيج الحزن في قلبي بعد فقد اخيه , القيت جسدي المرهق على سرير الخفارة , بعد لحظات التقاط انفاس توقفت سيارة للشرطة في باب شعبة الطوارئ , اخبرني احد المضمدين ان اتوجه بسرعة الى صالة العمليات , دخلت الصالة , هناك امرأة فاقدة للوعي ممددة على احد الاسرة , كانت عارية الا خرق قليلة من القماش تستر عورتها , يبدو انها في الثلاثينات من عمرها , في جسدها اكثر من عشرة طعنات بالسكين , بعض الجروح تجمد الدم حولها وبعض الجروح لازالت تنزف بغزارة , تبادلت النظرات مع الطبيب الخافر الذي اخبرني بدوره ان اُحضر اربعة قناني دم على وجه السرعة , اثناء عودتي للمختبر رافقني احد رجال الشرطة الذي حدثني عن تفاصيل الحادث بخصوص هذه المرأة , قال ان هذه المرأة عاهرة حاول شقيقها قتلها بعدة طعنات بالسكين , اعتقد انها ميتة , ا لقى بجسدها على قارعة الطريق ثم لاذ بالفرار , بالحقيقة كنت غير مهتم لتفاصيل الحادثة بقدر ما كنت حائرا بشأن قناني الدم التي ازدادت الى سبعة قناني من رصيد المصرف دون ضمانات , اخيرا سمعته يقول دعوها تموت , هي لا تستحق الحياة , لا تستحق قطرة دم واحدة ، ربما قنينة الدم تنقذ مريض آخر يستحق الحياة , قلت له مهما تكن هذه المرأة فالواجب يستدعي انقاذها , مسألة انقاذها لها اعتبارات انسانية , لو حدث اي تقصير في مسألة انقاذها سنخضع جميعا للمسائلة .
عند صباح اليوم الثاني وصل زميلي كاظم قادما من بغداد , اخبرته بتفاصيل الأحداث وصرف قناني الدم , رافقني الى والدة الطفل , لم يجرأ منا احد على الحديث معها بسبب انكسارها وحزنها العميق , لم نعثر على المرأة التي جاءت بصحبة الشرطة , اخبرنا احد العاملين في الطوارئ ان المرأة التي نبحث عنها نُقلت الى ردهة جراحة النساء .
بعد لحظات وقفنا بجوارها كانت نصف واعية , اخبرني كاظم قائلا : اخي اذهب انت ودع الامر لي ، سأتدبره انا بطريقتي , غادرت المستشفى وانأ احاول ان انزع ثقل الافكار من رأسي .
بعد اسبوع عدت لكي استلم الخفارة مجددا , اخبرني كاظم ان امر الدم قد حُسم , العدد الان مطابق للسجلات , قلت : كيف تصرفت ؟ , ضحك كثيرا عندما كان يحدثني عن المرأة , يقول ، كانت تلك المرأة مذهلة فعلا , بمجرد عودتها للحياة عادت الى طبيعتها المنحرفة , ازدحمت الردهة من عشاقها وصديقاتها من بائعات الهوى , ترسل الى كل من وقف الى جوارها في وقت المحنة من العاملين في المستشفى احدى تلك العاهرات عرفانا بالجميل , وطدت علاقات كثيرة , عندما حدثتها عن قناني الدم قالت , ولا يهمك حبيبي سأغرقكم بالدم وضحكاتها العهور تملأ الاجواء ، تناولت سماعة التلفون وتحدثت مع احدهم , بعد نصف ساعة ازدحمت ممرات المستشفى بالمتبرعين , كل هذه الجراح العميقة في جسدها لم تثنها من السير في طريق الانحراف , بل ازدادت فسقا وتمردا , كان معظم الوافدين لزيارتها في المستشفى من اعيان المدينة وشخصياتها المرموقة .
