منبر العراق الحر :
أسوأُ مصيرٍ يواجهُهُ شعب،حينَ يناقشُ مثقفوه في وسائلِ الإعلام : مَنِ الأفضل لبلادِنا، الديكتاتوريةُ أم الإحتلال؟!!. وكالعادة يُعزَل أولئك الذين لايجيبونَ عن السؤال، أو لايقنتعون به من أصلِه. مريدو الديكاتورية يخوّنونَهم لانّهم مع الأجنبي ومريدو الأجنبي يخونونَهم بدعوى أنهم مع النظام، يرفضونَ اسقاطَه .
هناك نوعان من المعارضين للنظام السابق..الأول عارَضَ صدام لذاته ، والثاني يعارض الباطل ويرى صدام صورةً من صورِ الباطل . ورغم أنْ أسباب معارضة الطرفين واحدة بسببِ ما ارتكبَه النظام من إجرام وحماقات وتفريط بمستقبل الدولة وامكاناتها. لكنّ الأولَ يريدُ إزاحته بأي طريقة، فاسقاطه يبرّرُ أي وسيلة ويجعلُها مشروعةً حتى لو دَخَلتْ الدباباتُ واحتلت البلاد، وتكرر سلوك واخلاقيات النظام وربما سياساته، فيما يبقى الثاني مأزوما الى زمن ليس قصيراً كونه يأمل في استبدال النظام وانهاء ركائزة وليس استبدال الحاكم فقط .
ولعل الموقف الذي وُضع فيه العراقيون بَعْدَ قرارِ الولايات المتحدة غزوَ العراق يدلّ في أدنى دلالالته على أنّ العراقيَ ظلّ مُبْعداً عن اتخاذِ القَرار في ما يخصّ مستقبلَ بلادِه ومصيرَ أرضِه من آلافِ السنين، إذا ثارَ اتهموه بالعمالة، وإذا سكت اتهموه بالخمول والاذعان والطاعة والاستسلام للحاكم ، وطالما تعرّض للتنمر من قبل كتابٍ ومتحدثين وجلاّدي ذات كثيرين، يسْخَرون من الشخصية العراقية ويبسّطون رغباتِها وتقلّباتها وميولَها دون أنْ يشيروا الى ماتعرضتْ له هذه الشخصية من ظلمٍ وقسوةٍ وإباداتٍ عبر التاريخ، قسى عليها حكامها قساوة أسطورية هي ذاتها التي جعلت خيار الاستعانة بالأجنبي ( وجهة نظر ) ويصبح الاحتلالُ تحريراً ، وتقبض الدولةُ المحرِرة الثمنَ الذي تحدّدُه لإزاحةِ حكامِنا عن كراسيهم !! . لكن الذي حَدثَ حدَث، وأولُّ من تنصّلَ عن مبدأ التحرير هي الولاياتُ المتحدةُ نفسُها بشهادة أقربِ أصدقائِها العراقيين.
ففي حوار لي مع المرحوم الدكتور أحمد الجلبي عام 2007 بُثّ ضمنَ برنامج ( العراق في قلب العاصفة) بأربع حلقات عن مذكرات مستشار الأمن القومي الأمريكي الأسبق جورج تينيت ، أشارَ الجلبي منزعجاَ الى أنّ الولايات المتحدة ارتكَبَتْ أكبرَ خطأ بعدَ الحربْ، وهو اعتبارُ دخولِها العراقَ احتلالاً وليس تحريراً. فقد رتّبت مع مجلس الأمن الذي كان رافضاً الحرب بمجمل أعضائه ،ليُصدِرَ قرار المجلس 1483 في 22 أيار2003 الذي يصف الولايات المتحدة بأنّها دولة ٌمحتلة، وتم تعيين بول بريمر رسمياً بموجب ذلك حاكماً مدنياً للبلاد مطلق الصلاحيات التشريعية والتنفيذية . يقول الجلبي : الولايات المتحدة أحدثتْ ثلاثة خروق بهذا القرار سياسي وأمني و…أخلاقي ، سياسياً نقضت فحوى قانون تحرير العراق الذي وقعه الرئيس كلنتون في 31 اكتوبر 1998 والذي استندت اليه ادارة بوش في شن الحرب على العراق ، أمنياً وفّر ذرائع صريحة للجماعات الإسلامية المتطرفة والإعلام بمقاومة (المحتل) مما نشر فوضى السلاح والعمليات الإرهابية التي فتكت بالمدنيين .
اما الخرق الذي يمكن تسميته بالأخلاقي يتمثل بان القرار 1483 أحرجَ أصدقاء أميركا وداعميها في حرب تحرير العراق من نظام صدام.ويرى الجلبي أنّ كل ماتبع دخول أميركا من مشاكل كان بسبب هذا التفويض الذي فاجأ الجميع ليعطّل الاجراءات السياسية المتفق عليها ويتيح لبريمر خلط الأوراق وإدارة البلاد حسبَ مخطّطٍ ليستْ لنا علاقةٌ به على حد قوله.
حديث الجلبي وهو عرّاب الحرب الأول وصانع قانون تحرير العراق الذي أشارَ اليه. يؤكد المَأزِقَ السياسي الذي وضَعَت ْأمريكا فيه حلفاءها ومناصريها وأصدقاءَها ، فبين توصيفِ التحرير وتوصيفِ الاحتلال فرقٌ كبير رغم أن الضحايا ذات الضحايا، والخرابَ الخرابُ ذاتهُ ، والمستقبلَ غامض، ومنظرَه الدبابات الأمريكية تجوبُ شوارعَ بغداد والأخطاء والحدود المفتوحة والفوضى هي هي، سواء كانَ احتلالاً أم تحريراً.