صعود أحمد الجاسم بمناسبة صدور كتاب عن سيرته وانجازه …د.عبد الحميد الصائح

منبر العراق الحر :

هناكَ أناسٌ رَحَلوا ولم يموتوا ، ظلتْ عيونُهم شاخصةً على الوطن ،قلوبُهم تنبض ، وآثارُهم تحكي قصصَ الهجرة والمنفى والموتِ والغربةِ ولوعةِ الأمهات والآباء على رحيلِهم خارج البلاد ورحيلهم خارج الحياة بعد ذلك، أحمد الجاسم أو أحمد أمير، الفنان العالمي الذي أدهش كلّ من عرفه ، ابن الناصرية المُدافةِ بنقيع الحزن والجمال معا، الذي ولد مبدعا ليقيم معرضاَ في الثانية عشرة من عمره قبل أنْ يقطعَ المسافة السحرية من درابينها وأحلامِها وريشتها الأولى الى جامعات ومسارح ومدنِ المانيا وفرنسا – ليصبحَ واحداً من أفضلِ عشرة رسامين للمسرح في أوربا ،يتدرب في ظل علمه وفنه الرسامون الشباب في تلك المدن بعد نيله شهادة الأفضلية الالمانية الثمينة هذه ، بصحبة أخيه حيدر الجاسم الفنان والمهندس الذي عمِلِ مصمما لطائرات البوينغ في شركاتها العملاقة. يرسم عالم المستقبل على أنغام داخل حسن وحضيري أبو عزيز. رحلا معاً وكأن الموت اختطفهما وهما في قمة العطاء والنضوج والامل بالعودة الى العراق .
المرة الأولى التي أسمع فيها اسم أحمد الجاسم ( 1952-1994) كانتْ نهاية السبعينات من صديقي القاص محسن الخفاجي، كان محسن يتحدث عن أحمد حديث العاشق عن المعشوق ، الموهبة المبكرة والشكل الجميل وسحر الكتابة وحداثة الرؤيا والقدرة الخلاقة الفائقة على الرسم ، والأسرة المبدعة من الأب عبد الحسين الجاسم الخزاعي الى أبنائه وابنته وكأنّ كلّ منتسب لهذه العائلة يصابُ بمسّ من جيناتها وروحِها الثورية الرفيعة، كثيراً جدا ما أسمع عن أحمد وحيدر وكاظم جهاد أحاديث واكثر مما يقوله محسن وعقيل علي وكمال سبتي وحسين عبد اللطيف في زياراته المتقطعة من البصرة الى الناصرية بعدَ أنْ التقى أحمد في باريس لقاء يصفه حسين( غير حياتي). في أيام مرافقتي محسن وهو يعد مجموعة قصصية بداية الثمانينات بعنوان ثياب حداد بلون الورد، أراني رسماً مذهلاً لأحمد على ورقة، قرر اعتماده غلافاً للمجموعة ، يا للجرأة والجمال والحداثة !!. حتى تجاوز فضولي لمعرفة احمد الى حبّه وصداقته عن بعد ، حب الفنان الشاب الذي أصبح في وقت قياسي علماً في الفن والمسرح والرسم والابتكار، فصار الى جانب حيدر صديقين اتابعهما واتابع اختهما المبدعة رملة، بارك ذلك معرفتي ولقائي باخيهما الأصغر الشاعر والصحفي محمد الجاسم المقيم في المانيا والمصاب بذات المس الذي ورّثهُ الجاسم العظيم لأبنائه.
وهاهو محمد ، يخرج جثمان أحمد من مقابر برلين ، ليلحقه بروحه التي لم تغادر العراق أساسا. انه يوم صعود احمد الجاسم، أحمد أمير الى نور الوطن ودفء الاهل واعادة الأمانة الى أبيه : تلك القصيدة التي كان أحمد يضعها حتى آخر لحظة من حياته على سريره، كما يروي صديقه الدكتور حسين الهنداوي الذي كتب مرثية بليغة في رحيله وصف فيها تاثير قصيدة أبي أحمد فيه بالألم السرّي… قصيدة الأب عبد الحسين التي أراها أبلغ مايمكن أن يكتبَه أبٌ عن وحشةِ فراقِ ابنه المسافر الى المجهول :
أعطَيتُهُ القَلبَ لمْ أطلُبْ مُقايَضَةً
سِوى ابتِغائيَ أنْ يَهْوى كَما أهْوى
وَها أنا، موحِشٌ بَيتي عليّ إذاً
مِنَ المُسافِرِ أمسى مُقْفِراً خلوا
عَذَرْتُ مَنْ لمْ ألِدْ، إنْ راحَ يَبْهتُني
ما بالُ فلْذَة كَبْدي صارَ لي بلوى؟
ومثلما حمل أبو الفرزدق نعشَ أخيه من برلين الى دار السلام في النجف الاشرف ، أكملَ هودجَ عودته بجمع كل ماكتب بحق احمد فقيد الوطن والفن والاحتجاج السياسي.لينشره في كتاب مستقل بدا في أسلوب تحريره الرصين والاسماء اللامعة التي كتبت عنه من شعر ونثر ، قاموسا للعواطف واستذكارا للسيرة الملونة الثرية المؤثرة.
لقد انجز الجاسم محمد والروائي المبدع نعيم مهلهل بتحريرهما هذا الكتاب الجميل بياناً تاريخيا للوفاء في أعلى صوره وهما يلمّان شتات ذاكرات المحبين جميعاً على صفحات ( مداد الأكارم في رثاء أحمد الجاسم).

اترك رد