منبر العراق الحر :
يهب الهواء الدافئ المحمل بعبق الأشجار الشامخة في القسم الشمالي من جبال الألب البهية، ويمتزج مع رائحة الزهور والورود التي تعبق في أرجاء المدينة، ليعلنا أن الربيع قد بسط سيطرته بالكامل على ميونيخ، جميلة المدن الألمانية التي تتقن جيداً لغة إغواء زوارها للعودة إليها مراراً وتكراراً. فكم من مرة قصدتها، ليس فقط في الربيع، بل أيضاً في الصيف والخريف، وحتى في الشتاء حين كان يغمرها الثلج والصقيع، فكانت في أي فصل تبهرني بجمالها المعهود وتحثني على زيارتها من جديد.
أرض الرهبان
وميونيخ أو كما تعرف بالألمانية باسم München أي “أرض الرهبان”، هي ثالث أكبر مدن ألمانيا بعد العاصمة برلين وهامبورغ. وهي أيضاً عاصمة ولاية بافاريا الحرة بعدما كانت بين عامي 1180 و1918 عاصمة مملكة بافاريا.
فالمملكة البارفاية اندثرت منذ أكثر من 100 عام بانضمام بافاريا رسمياً إلى جمهورية ألمانيا الاتحادية التي تضم اليوم 16 ولاية. وأينما تجولتم في رحاب المدينة ستلفت انتباهكم صورة راهب شاب يرتدي ثوباً أسود وقلنسوة، ويحمل في يده كتاباً
أحمر، وينتعل حذاءً أحمر. وهذا الرسم المميز ستجدونه على الكثير من التذكارات التي تباع في كل أنحاء المدينة. إنه شعار ميونيخ الرسمي، وأحد رموزها الوطنية. ويأخذنا ذلك الشعار إلى القرن الثامن، حيث كانت تقطن ميونيخ آنذاك مجموعة من الرهبان، وهم الذين أسسوا دير تيغرنسي Tegernsee Abbey في بلدة تيغرنسي القريبة من ميونيخ.

إحجزوا الطاولة الملكية في “هوفبراوهاوس”
عام 1158 تمنى دوق بافاريا وساكسونيا هنري الملقب بالأسد من الرهبان تأسيس سوق تجاري على طول الطريق المؤدية من ميونيخ إلى الجارة النمساوية مدينة سالزبورغ. عندها بدأ يسطع نجم ميونيخ وتحولت بمرور الوقت من قرية صغيرة إلى مدينة مزدهرة.
مملكة بافاريا
إن أكثر العائلات الأرستقراطية التي كان لها الفضل في جعل ميونيخ متحفاً مفتوحاً للمآثر العمرانية المهيبة هي أسرة ”فيتسلباخ” Wittelsbach الملكية التي حكمت بافاريا لأكثر من 700 عام وحولتها إلى مملكة.
وسوف تلاحظون أثناء الحديث مع أهل بافاريا أنهم، رغم انضمام مملكتهم السابقة إلى الجمهورية الألمانية، فإنهم ما زالوا متعلقين بجذورهم البافارية وبعاداتهم وتقاليدهم المتوارثة عبر الأجيال. وهم يعرفون عن أنفسهم بأنهم من بافاريا قبل الإشارة إلى أنهم ألمان. من المؤكد أن يقودكم المشوار إلى قصر ”نيمفنبورغ” Nymphenburg Palace الذي يقف بكل هيبة ووقار أمام أعين الزوار ليقدم لهم تحفة معمارية من عصر المدينة الذهبي.
لا يزال يعيش في القصر فرانز دوق بافاريا، وهو آخر المنحدرين من سلالة “فيتلسباخ”. تبرز في القصر مظاهر الثراء والترف، بخاصة على الجدران والنوافذ والأبواب والأسقف المشغولة بنقوش غاية في الروعة والدقة. ولسنوات خلت، كان هذا المكان المقر الصيفي لملوك بافاريا. وفي القصر غرفة الملكة وفيها السرير الذي ولد فيه الملك لودفيغ الثاني عام 1845.
في الطبقة العلوية تتربع أكبر مجموعة قديمة من بورسلين نيمفنبورغ الذي أنتج بين عامي 1747و1930. فأسرة “فيتلسباخ” كانت تفضل اقتناء ذلك النوع من البورسلين الفاخر. وإرث “فيتلسباخ” المعماري يمتد إلى قصر ميونيخ “ريزيدانس”
Munich Residenz الذي يعد أكبر قصور أوروبا ويتسم بواجهة مثيرة للإعجاب. فهذا البناء الشديد التميز يضم 130 غرفة، وعشر ساحات، ومسرحاً ضخماً، ومتحفاً، وخزينة أموال، وصالة للعملات النقدية التي جُمعت خلال فترة حكم الملك لودفيغ الأول.
ومن قصور ميونيخ العريقة ينتقل السائح إلى كاتدرائية السيدة العذراء “فراونكيرشه” Frauenkirche الشهيرة ببرجيها ذوي الشكل البصلي بارتفاع 99 متراً. وللمحافظة على جمالية هذا المنظر الساحر الذي يعد أحد معالم ميونيخ السياحية وأحد رموزها الوطنية، فقد نجح سكان المدينة عام 2004 بإقرار قانون يمنع بناء أي مبنى يفوق ارتفاعه برجي الكاتدارئية المشيدة في القرن الخامس عشر. وإذا كنتم من محبي سماع الأساطير والخرافات، فلربما سوف يخبركم المرشد السياحي أثناء زيارتكم الكاتدرائية بأن الشيطان ترك دعسته مطبوعة عند مدخل الكنسية لردع المؤمنين من الدخول إليها للصلاة ولممارسة طقوسهم الدينية.
أسرار من الساحة!
وميونيخ كتاب مفتوح يعرض بين طياته تواريخ وحوادث ومراحل مهمة عاشتها المدينة. وللتعرف إلى جزء من ماضيها المجيد وإلى الأسرار والخرافات التي تُحكى في زواياها العتيقة، قصدت ساحتها الشهيرة “مارين بلاتس” .
هي قلب ميونيخ النابض بالحياة والحركة. وقفت مع غيري من السياح في وسطها، وتأملت ذلك العمود الطويل الذي يربض في أعلاه تمثال ذهبي للسيدة العذراء مُشيد عام 1638 للاحتفال بتحرير ميونيخ من الاحتلال السويدي. ما لا يعرفه كثيرون أن تحت تاج مريم العذراء كبسولة مخبأة في داخلها قطعة من عظام القديس الألماني “بينو” شفيع المدينة. وهذا ما يجعل العمود المريمي الذي يرتفع 11 متراً، مذبحاً كنسياً في الهواء الطلق، كما تتلى هنا صلاة المسبحة كل يوم أحد. والخرافات والحكايات القديمة نُحتت على أشكال 4 تماثيل صغيرة توزعت عند أقدام العمود المريمي. وعلمت أن تلك التماثيل ترمز إلى المحن والمصاعب التي تغلبت عليها المدينة في السابق.
فالحرب عبر عنها تمثال الأسد، والوباء تمثال الكوكتريس (كائن خيالي يشبه التنين وله رأس ديك)، أما المجاعة فتجسدت في تمثال التنين، والخرافات في تمثال الأفعى السوداء. وتقول الأسطورة إنه في العصور الماضية، كانت تلك الأفعى تدور دائماً حول مبنى دار البلدية، وكانت تبخ أنفاسها السامة بغية تفشي داء الطاعون في المدينة. تزنر “مارين بلاتس” المباني التاريخية من كل جانب، من أكثرها تميزاً دار البلدية الجديد “نويس راتهاوس” المزخرف بالهندسة القوطية والشهير ببرجه الذي يستقطب آلاف السياح يومياً، وبخاصة بين الحادية عشرة أو الثانية عشرة ظهراً، أو حتى عند الخامسة عصراً. فخلال تلك الأوقات تضج الساحة بأعداد هائلة من السياح لمشاهدة تماثيل صغيرة تطل من أعلى البرج لتقدم رقصات فنية لبضع دقائق على إيقاع نغمات موسيقية تملأ الأجواء فرحاً وحبوراً.

قصر “نيمفنبورغ” الذي يحكي قصة مملكة
شارع الفخامة
مسافة قصيرة تفصل “مارين بلاتس” عن شارع التبضع المعروف عالمياً “ماكسيميليان شتراسيه” Maximilianstrasse الذي يحمل اسمه الحالي تيمناً بملك بافاريا ماكسيميليان الثاني الذي حكم بين 1848-1864، وهو الذي قرر بناء هذا الشارع الفسيح المحروس بالمباني الفخمة لإضافة العظمة والمجد إلى مملكته.
ستكتشفون أهمية هذا الشارع الذي يحمل لقب “شارع الفخامة” فور دخولكم متاجره التي تعنى ببيع الساعات الأنيقة والمجوهرات التي تتوهج بأحجارها الكريمة وألوانها المشرقة، لتدعو الزوار إلى شرائها. فكثير من أهم وأرقى الماركات العالمية تتلاقى للمنافسة وإثبات وجودها في عالم الموضة والأزياء.
وللمباني التاريخية حصتها في “ماكسيميليان شتراسيه”، إذ سيستقبلكم عند بدايته المسرح الوطني الذي يشبّهه كثيرون بأحد المعابد اليونانية، وهو يحتضن دار الأوبرا في بافاريا، وأوركسترا بافاريا الوطنية، وفرقة البالية البافارية. ولذلك يشهد عروضاً مبهرة دائماً. عند نهاية الشارع سيطالعكم بناء غاية في العظمة. إنه مبنى “ماكسيميليانيوم” Maximilianeum المُشيد عام 1874 كمكان لإقامة الطلاب المتفوقين في المدينة. ولا يزال منذ عام 1949 المقر الرسمي لبرلمان ولاية بافاربا.
بعد جولة طولية في هذا الشارع قررت اللحاق بالسكان المحليين لزيارة أحد أقدم مصانع البيرة في ألمانيا. إنه “هوفبراوهاوس” Hofbräuhaus الذي تأسس عام 1589 على يد دوق بافاريا وليام الخامس ليكون في تلك الفترة خاصاً بأسرة “فيتلسباخ”. وبمرور الزمن تحوّل المصنع إلى أحد أهم المطاعم التقليدية في ميونيخ. ولا تزال أسرة “فيتلبساخ” تحتفظ بطاولتها الخاصة فيه. يمكنكم حجز الطاولة الملكية في حال عدم وجود أي من أفراد الأسرة هناك.
وتمتلك بعض العائلات المرموقة في ميونيخ خزائن حديدية صغيرة في المطعم لتخزين أوانيها الفخارية. فعندما تقرر تلك الأسر زيارة المطعم، تأخذ تلك الأواني إلى النادل. والطاولة التي يكون عليها ذلك الإناء الفخاري تكون منحدرة من أصول ألمانية نبيلة. ويبقى “هوفبراوهاس” اليوم مكاناً شعبياً ومقصداً لعيش الأجواء البافارية بأدق تفاصيلها.

العذراء مريم تتوسط برجا الكاتدرائية
اخترنا لكم!
وميونيخ كغيرها من مدن العالم تتميز بفنادقها الأنيقة التي تتلألأ بنجوم الفخامة. وعند الحديث عن أهم تلك الفنادق لا بد من ذكر اسم فندق “بايريشرهوف” Hotel Bayerischer Hof الذي يرقى تاريخ افتتاحه إلى عام 1841.
يرجعنا تاريخ الفندق إلى عام 1839 حين تمنى ملك بافاريا لودفيغ الأول على السيد جوزيف أنطون فون مافيه بناء فندق من الدرجة الأولى لاستقبال ضيوفه عند زيارتهم المدينة. وفي خريف 1841 أنيرت أضواء الفندق وشرعت أبوابه لتستقبل الملوك والأمراء وطبقة النخبة. وظل السيد مافيه يملكه ويديره لغاية وفاته. ومع إطلالة عام 1897 اشترى السيد هرمان فولكهارت الفندق، ولا يزال في عهدة العائلة الألمانية نفسها منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.
وكم يتردد اسم الفندق في شهر شباط (فبراير) من كل عام في وسائل الإعلام العربية والعالمية خلال مؤتمر ميونيخ للأمن الذي لا تزال تحتضنه المدينة منذ عام 1963. ففي تلك الفترة يجهز “بايريشرهوف” نفسه لاستقبال أكثر من 450 شخصية رفيعة المستوى من جميع أنحاء العالم، جميعهم يمضون في أروقته ثلاثة أيام متتالية، ويتحول الفندق عندها إلى أشبه ما يكون بمقر عسكري محصن.
تطول لائحة الشرف التي دُوّنت عليها أسماء لشخصيات عالمية أحبت الفندق وقررت الإقامة فيه عند زيارتها المدينة، من بينها مصممة الأزياء الفرنسية نينا ريتشي، ومصصم الأزياء الفرنسي كريستيان ديور، ومصمم الأزياء الإسباني-الفرنسي باكو رابان. ومن عالم الموسيقى نذكر المغني وعازف الجاز الأميركي لويس أرمسترونغ، والمغنية والممثلة الأميركية بيونسيه، والمغنية البربادوسية ريهانا. أما في مجال الثقافة والأدب فنستحضر الكاتب والروائي الأميركي أرنست همينغواي، والكاتب التشيكي فرانس كافكا الذي برع في الكتابة بالألمانية ويعد أفضل أدباء الألمان في فن الرواية والقصة القصيرة. واللائحة تطول لتشمل أسماء لامعة في شتى الميادين. جميعهم أحبوا “بايريشرهوف” وجعلوا منه بيتهم الجميل بعيداً من ديارهم. كل الذين تسنى لهم زيارة الفندق، أو تابعوا بعض التقارير عنه، سيعملون أن هناك عيناً ساهرة على إدارته إدارة مميزة. إنها السيدة إينغريت فولكهارت مالكة الفندق والمديرة العامة منذ توليها المهام عام 1992. وإينغريت هي الجيل الرابع من أسرة فولكهاردت التي لا تزال تملك الفندق منذ زمن طويل. وقد سعت خلال مسيرتها المهنية الناجحة إلى إنفاق أكثر من 150 مليون يورو لترميم الفندق ومده بطبقات جديدة وأجنحة فخمة.

فندق “بايريشرهوف”.
يضم الفندق اليوم 337 غرفة، و74 جناحاً تطيب الإقامة فيها وعيش حياة الراحة والرفاهية. إن أكثر الأجنحة تميزاً في “بايرشرهوف” هو “بانتهاوس غاردن سويت” الذي يحتل الطبقة الثامنة بأكمله، ويتمادى على مساحة 350 متراً مربعاً، وهو محاط بحديقة غناء بمساحة 124 متراً مربعاً. ومن أماكن الإقامة الأنيقة ينتقل النزلاء إلى مطاعم الفندق العديدة والمتنوعة والتي تشمل مطعم “أتيليه” Atelier الحائز 3 نجوم “ميشلان”، مع العلم أن هذه النجوم تمنح كأوسكار في التميز في عالم المطاعم والطهو. وكم تحلو الجلسات في مطعم “بلو سبا لاونج” Blue Spa Lounge الذي يحظى بإطلالة شاملة على المدينة ويتميز بأطباقه الخفيفة. ولا ننسى مطعم “روف غاردن” Roof Garden الذي ستزورونه حتماً لأنه المكان المخصص لتناول الإفطار، ويشرف على الحي القديم.
محبو المأكولات الآسيوية، وبخاصة البولينيزية سيكون بانتظارهم مطعم “تريدر فيكس” Trader Vic’s المتخصص في الأطباق التقليدية التي يتميز بها سكان الجزر البولينيزية السابحة على زرقة مياه المحيط الهادي.
ولأن “بايريشرهوف” هو عالم متكامل بحد ذاته، فلا داعي للتفتيش عن أماكن للسهر، إذ إنه يشمل على أكثر من 5 نواد ليلية يطيب فيها السهر والسمر لأولى ساعات الفجر.
هكذا يشكل هذا الفندق التاريخي الرابض في وسط المدينة علامة مميزة وفريدة في عالم الضيافة والخدمات، ويبقى المحطة السنوية للعديد من المسافرين، وبخاصة من عالمنا العربي، كما تبقى ميونيخ مدينة ودودة وفخورة بكل من يردد شعارها الذي يقول: “مونيخ بتحبك” “München mag dich”.
جان-بيار حبيب….النهار العربي