قصة (طعم الحديد)….هدى الجلاب

منبر العراق الحر :
اعتدت أنْ أسلك درباً واحدة،
خطوات معدودة توصلني إلى الشارع العام
ثمّ أركب أول سيارة أجرة تصادفني كي تقلني.
لا أدري ما الخاطر الغريب الذي دعاني إلى التغيير
فقررت أنْ أقطع المسافة مشياً على قدمي
في هذا المساء، فوق أرض حجريّة
بين حارات ضيقة تتقابل جدرانها بشموخ
و أخشاب نوافذها تتعانق بودّ ..
شعرت ببعض رضا ..
قرأت ملامح ذكريات مرسومة بالدهان على الأحجار، استنشقت عبير حُبّ صاف مع رائحة زهور عراتلية
تتدلى جدائلها بسحر دلال ..
سحبت أنفاسي بعمق فارتاحت نفسي قليلاً ..
بودّي أنْ أقطف زهرة بيضاء مزركشة،
من عبّ الأوراق المتعانقة ..
أرفع كعبيّ لأقف على رؤوس أصابعي ..
لا فائدة بقيت دون نوال أيّ زهرة،
لا أدري الأغصان عصيّة أمْ يدي قصيرة الحيلة؟
أتابع السير و في قلبي حسرة على زهرة يتيمة
تداعب أرنبة أنف راغبا بمزيد من العبق الدمشقي الساحر ..
نسيت الأمر حين شغل فضولي كلمات معترضة
سمعتها من وراء ستائر شبابيك مفتوحة.
أحدهم يقول بصوت عريض: الحرب هلكت الجميع الله وكيل. من نافذة أخرى بصوت ناعم: الله لا يسامح من يُخرّب الشام. صوت مخنوق: كأنّ القيامة قامت يا ناس. بحزم: ما عادت الأمور تُحتمل تعبنا. استوقف فضولي نشرة أخبار تنطلق بحريّة من نافذة منخفضة بعض الشيء دون ستائر ..
حاولت استراق نظرة إلى الداخل،
رآني صاحب البيت الضخم فهبّ كالنمر
و قال واثقاً: أهلاً تفضلي.
هربتْ كفأرة جبانة..
روح غريبة سحبتني خارج نطاق الحارات الشعبية كي تبعدني عن صخب ثرثرة و خيالات إلى وحشة طريق شبه مقطوعة، كأنّ تلك الروح تريد أنْ تريني بعض لقطات
فتبعت إرادتها علّني أكتشف طعماً أجهل كيمياء مذاقه.
على الطريق الطويلة التي اختارها قدر لحظة غريبة
و لبرهة قصيرة حسبت أنّني ليلى الحكاية الخيالية
التي حكتها أمّي على طرف سريري الصغير،
فتخيلت الذئب الضخم ينتظرني على فارغ الصبر
فاتحاً فمه على مصراعيه وراء شجرة هرمة
يريد أكلي دون ملح أو بهارات.
هل أرجع؟
لا سوف أتابع، مَنْ يختار التغيير عليه أن يتحمّل أنواع المفاجآت و إلاّ لا معنى للعناء،
سوف أمتحن طعم الخوف،
ما سمعت عن خوف تجسّد و قطع الرؤوس
أو أكل أيّ مخلوق،
لأنّه مُجرّد حالة وهم يصنعها خيالنا بلحظة ضعف.
عدت إلى الوراء زمناً، فتحت الأبواب المُغبّرة ..
انتابني الخوف أول مرّة في حياتي
حين سمعت عن عالم الجن المخيف
ثمّ من الفئران و الحشرات
و تخيلتُ الخوف حينئذ وحشاً مفترساً
سيهجم علينا يمزقنا ويأكلنا بأسنان طويلة ..
حكايات الرعب، الغول الذي يسرق البنات،
أبو كيس العملاق، رهبة الامتحانات،
خسوف القمر، كسوف الشمس،
جنون البقر، الإيدز، انفلونزا الطيور.
أحاول جاهدة تغيير موجة الرعب،
لكي أتناسى موضوع الذئب المزعوم والغيلان
و الأمراض ..
أفتح باباً جانبياً لدخول مشاعر رقيقة
أحاول أنْ أستدرج إلى المُخيّلة شريطاً آخر
من صور الماضي الجميل.
أنبّه و أحرّض بعض حواس بعاطفة فاترة
لأستفزّ دواخلي المُتقلصة.
كيف كانت الأيّام حلوة؟
كيف كان لجمال ضوء القمر طعم
و هو يداعب بأصابعه الطويلة جسد الأرض المستلقية
تحت ظلال هادئة بدلال واستسلام؟
كيف كنت ألحظه نوراً راقصاً يلامس أطراف الأشجار
بروعة و جمال؟
سقى الله أيّام زمان، لماذا أشعر بغيمة سوداء تخيفني
و تخنقني على مدار الوقت؟
خوفي عليكِ يا شام،
آه كم غزلك يُطربني،
كم أنتِ جميلة في الليل و النهار
لكنّني ألامس نسيج وجعك الآن
حيث يبهت عبق ياسمينك المُدلل
الذي كان يُتسربل الجدران بفرح.
أتطلع نحو جبل قاسيون
أجده ما زال واقفاً بكبرياء،
أحاوره ألقي عليه تحيّة المساء:
سلام الله عليك أيّها القوي،
يا مَن تبهر بسحرك جميع الأضواء،
أيّها العظيم القابع كأمّ حنون تسهر
لترعى بيوتات الشام.
عجباَ كمْ قصّة وراء كل ضوء، وراء كلّ جدار؟
تُرى نُشعل الأضواء كي نرى الأشياء
أم كي لا نخاف منها،
أمْ لترانا هي و لا تشعر بطعم الرعب
من وقع خطواتنا القاسية؟
مِن تفجير ورصاص و أوهام ..
خوف يلبس شراييني
أنْ تفقد بلادنا الحلوة بريق عينيها
من عمى ألوان الوقت النشاز.
بينما تسبح أفكاري في محيط العام و الخاص مِن قبح
و جمال، أنعطفُ شاردة البال فألمح بعض قساة ملثمون
يضربون بقضبان حديدية فتى عسكري بعمر الزهور ..
أقرفصُ خلف حاوية نفايات بلا حول و لا قوّة،
أغطي أنفي و فمي بيد قصيرة مُرتجفة و يُطلق على الفتى المسكين أربع رصاصات في غفلة الضمير و غياب الرحمة.
أضغط كفّ يميني أكثر لأصمت مُرغمة
و تصرخ دواخل مُعترضة مُزمجرة ..
اهتزازات ثارت عاصفة ثمّ تلاشت في فضاء
لا يريد الاستماع للمزيد من القصص المؤلمة.
سمعتْ ملائكة السموات نداء أرواح بيضاء
فنزلت إلى سطح الأرض المغدورة و حملت الشهيد
على بساط مُفعما بعبق الغار السوري.
.. هُدى محمد وجيه الجلاّب .

اترك رد