منبر العراق الحر :ف
كان يومًا حافِلًا بما سيَظَلُّ راسِخًا في ذهني سنين.
أنْ تَطَّلِعَ على مدينةٍ ليست مدينتَكَ شيءٌ،
وأن يُطْلِعَك عليها من خَبِرها، وسبَرَ شِعابَها،
وهو من أهلها، شيءٌ آخر، وهكذا كانت هيَ الحالُ.
جاءني أبو المحامدِ حيثُ مَحَلُّ إقامتي، قربَ الحرمِ المكِّيِّ،
لينطلقَ بي في اتِّجاهِ مناطقِ المشاعرِ شرقيَّ مكَّة.
تلك هي مناطقُ تقام فيها شعائرُ الحجِّ، ولذا سُمِّيتِ المشاعِر.
تضمُّ المشاعرُ مِنى ومُزْدَلِفَةَ وعَرَفات، أما مشعرا مِنى ومزدلفة،
فيقعانِ ضمنَ حدودِ الحرمِ، وأما مشعرُعرفات، فيقعُ خارِجَها.
كان الرجلُ مُصِرًّا على ألّا أبرَحَ مكةَ، إلّا وقد أطلعني على مواقعَ
هي مَحَطُّ احْترامٍ لأيِّ مسلمٍ، سيما وهو يعرفُ ما انا عليه،
من شغفٍ بتلك الديار، وأنا المُنْحَدِرُ منها أَصلًا.
كم كنت أطيرُ فرحًا لكلِّ معلومةٍ تدخلُ ضمن ثقافتي، كعربيٍّ
أُدينُ بدينِ حملهُ رجلٌ جادت به بطحاءُ مكةَ رحمةً ونورا.
نعم إنه يعرف أنّي أُقدِّرُ علمَهُ ودرايتَهُ، وأنه محطُّ ثقتي،
بل لا تستغربْ إن قلتُ أنَّ صاحبي كان يحرصُ على تزويدي
بما حصل عليه من مصادرَ كتبت في تلك الديار، لأطَّلعَ عليها!
عليَّ ان اذكرَ أنَّ اهْتمامَهُ ليس وليدَ اللحظةِ، انما تمتدُّ جذورُهُ
إلى سنينَ عديدةٍ، منذ أن كان في الدراسة المتوسطة.
مِنى، مُزدلفة، وعَرفات
إن كنت تعرفُ او لا تعرفُ، فمِنى هو مكانُ رَمْيِ الْجَمَرات،
والْجَمَراتُ – رعاكَ اللهُ – صُغرى ووُسطى وكُبرى.
انَّ رميَ الجَمَراتِ لا يعدو ان يكونَ رمزًا يمثل الخروجَ على
إرادةِ النفسِ الأمّارةِ بالسوءِ، والانْقيادَ السليمَ لما تحُضُّ عليه
النفسُ السوِيَّةُ، بما يخالفُ ما يدعو إليه الشيطانُ الذي أقسمَ
بجلالِ اللهِ وعزَّتِهِ، لَيُغْوِيَنَّ بني البشرِ ما اسْتطاع.
في زيارتي هذه، لاحظتُ أن جُهدًا ملحوظًا قد بُذِل لتنظيم
الرمي مقارنةً بزيارةٍ لي سابقةٍ لهذا المكان، قبل أكثر من
عقدين. لقد وقفت مَلِيًّا أتَطَلَّعُ الى هذا المكان، وكنت كما انا،
يراني الرائي فيظُنُّني منشغلًا – في سكْنَةٍ زمنيةٍ محدَّدةٍ –
بِحَدَثٍ واحدٍ أو منظرٍ معينٍ، لكني كنت أٌحَلِّقُ بعيدًا،
فتأخذني افكاري إلى عوالمَ أخرى أبعد.
لا شكَّ أنَّ الجهودَ التي بُذِلت لتطويرِ منطقةِ الرَّمْي كثيرةٌ:
إنشاءُ جسرٍ ذي طوابقَ عدةٍ، أسهمَ في تفادي وقوع
الحوادثِ المميتةِ اثناءَ الرمي؛ تحسينُ وسائلِ الإنارةِ
والتصويرِ، والتكييفِ والمرافقِ الصحيةِ، وأماكنَ
شربِ الماء؛ تعدُّدُ المداخلِ إلى الجسرِ والسلالمِ،
إلى غير ذلك من اجهزةِ السلامةِ الداعمة.
وقفنا فأشار صاحبي إلى أحواضٍ ثلاثةٍ كبيرةٍ، تقع على
خطٍّ مستقيمٍ، تبتعدُ عن بعضها مسافةً مُجزية. شخوصٌ
أو أعمدةٌ كانت بارزةً وسطَ كلِّ حوضٍ هي الجمرات.
نالت هذه الأحواضُ توسعةً وتغييرًا بغية التَّسهيل.
أذكر ما ذكرتُ، لأني أستحضر ما عانيت سابقًا، وما
شاهدت، وهي لا شك انجازاتٌ تستحقُّ الذكرَ والثناء.
غادرنا مِنى مارّين بمسجدِ البيعةِ القريبِ. هذا المسجدُ
أُقيم في زمنِ أبي جعفر المنصور، تخليدًا لبيعةِ الأنصارِ
للنبي في موقعِ الاجتماعِ التاريخي الذي عقده معهم.
بعد مسجدِ البيعةِ، مرَرْنا بمشعَرِ مزدلفةَ، الذي نال اهتمامًا
هو الآخرُ توسعةً، وإنارةً، ومرافقَ صحيةً، وتسهيلاتِ
مبيت الحجاج، اثناء نفيرِهم من عرفات الى مِنى،
لرمي الجمرة الكبرى (العقبة).
لقد مرَرْتُ سابقًا بهذه الاماكن حينما جئتُ حاجًّا،
لكني لا اتذكر أنّي رأيتُ حينَها كما أرى الآن.
واصلنا السيرَ الى عرفات مارّينَ بمسجدِ نَمِرَة، ثم صعدنا
فوقفنا على قِمَّةِ جبل الرحمة. وانا أقف على هذا الجبل،
وأُمعِنُ في حجارتِهِ الكبيرةِ السوداءِ، استرْجعْتُ وِقفةَ
الرسولِ أسفلَ هذا الجبلِ، يخطب خطبةَ الوداع، فيعلنُ
اكتمالَ رسالةِ الإسلام: “اليوم أكملتُ لكم دينَكُم، واتممتُ
عليكم نعمتي، ورضيتُ لكم الإسلامَ دينا”.
مكانٌ غيرُ عاديٍّ، وحدثٌ غيرُ عاديٍّ، يدعوان الى وِقْفةٍ
لمراجعةِ الذاتِ جادةً أساسُها التجرُّدِ والتَّعَقُّل.
في صعودِنا الجبلَ ونزولِنا، كان صاحبي يُسْهِبُ في شرحِ
ما نشاهدُ سيما الحائط اسفل الجبل. هذاالحائط كان قد
بناهُ الاتراكُ قديمًا مُزوّدًا بأماكِنَ لشربِ الماء.
أن تقفَ في ايِّ مكانٍ من عرفة بين الفجرِ والمغربِ من
اليوم التاسع من ذي الحجة، تكونُ قد انهيتَ الجزءَ الاساسَ
من مناسكِ الحج، فلا حجَّ دون هذا الوقوف، “فالحجَّ عرفة”.
يصحبُ هذا الوقوفَ دعاءٌ واستغفارٌ، وعند الغروبِ يبدأ
النفيرُ للمبيت في مزدلفةَ، وهو واجبٌ أخرُ من واجباتِ الحج،
“فإذا أَفضتُمْ من عرفات، فاذكروا الله عند المشعرِ الحرامِ،
واذكروهُ كما هداكُم واِن كنتم من قبلهِ لَمِنَ الضالين”.
رأيتُ آخرين جاءوا مثلي إلى هذا المكان للزيارة، لكني تأمَّلْتُ
كيف أن أكثر من مليوني انسانٍ، يأتون في موسمَ الحجِّ،
إلى هذا الجبلِ في كل عام – إلّا ما ندرَ – ليقفوا وِقفةً واحدةً،
مكبّرين اللهَ على ما هداهُمْ مُلَبّينَ مُبتَهِلينَ، الوانًا مختلفة،
والسنةً مختلفةً، واعمارًا مختلفةً، وأمصارًا مختلفة.
إنه لَحَدَثٌ فريدٌ، لا يقعُ إلاّ في زمانٍ محددٍ، وفي هذا المكان
لا سواه. تلك هي عظمةُ الرسالةِ التي جاء بها مُحَمَّد.
ويتحركُ الحجاجُ بعد صلاةِ الفجرِ، من مزدلفةَ إلى مِنى في
اليومِ الأولِ من عيدِ الاضحى، فيرجمون الجمرةَ الكبرى
بسبعِ حُصَيّاتٍ، فالنحرُ فالتقصيرُ، ليحتفلوا بعدها بالعيدِ
ويؤدّوا طوافَ الإفاضةِ، ويسعَوْا بين الصفا والمروة.
في كل من الأيام الثلاثةِ التي تلي اليومَ الأولَ يرمي الحجيجُ
كُلاًّ من الجمرة الصغرى والوسطى والكبرى بسبعٍ لكلٍّ منها
لِيُكمِلوا رميَ 70 حُصَيَّةً خلال أيامِ العيدِ الأربعةِ، ابتداءً من
اليوم العاشرِ من ذي الحِجّة، ناوين الابتعاد عن مواطن الشر.
مسجد الجن ومقبرة المُعَلاّةِ
واصلنا رحلتَنا الإستطلاعيةَ الميمونةَ، فمررنا بمسجدِ الجِنِّ
الواقعِ بين مقبرةِ المُعَلاّةِ وشارعِها. هذا المسجدُ هو ذاتُ
المسجدُ الذي استمع فيه الجِنُّ إلى الرسول متزاحمينَ وهو
يقرأ القرآن، فسُحِروا بما سَمِعوا “قل أُوحِيَ إليَّ أَنَّهُ استمعَ
نفرٌ من الجِنِّ فقالوا إنا سَمِعْنا قرآنًا عجبا”.
تصوَّرِ الموقفَ! النبيُّ وهو بشرٌ وحدَهُ، يُحاطُ بجِنٍّ يستمعونَ
إليه بِشَغَفٍ، متذوقينَ حلاوةَ الذي يسمعون، يا لَهُ من منظَر!
مَرَرْنا بعدها بمقبرة المُعَلاّةِ، وهي اقدمُ مقبرةٍ في مكةَ، وقرأنا
الفاتحةَ عند ام المؤمنين، خديجةَ بنتِ خُوَيْلدٍ، المدفونةِ فيها.
مدفونٌ هناك ايضًا جَدُّ الرسولِ، وعمُّهُ، وولداهُ القاسمُ وعبدُ الله،
واۤخرونَ من الصحابة الكرام بالاضافة الى أبي جعفرٍالمنصور،
الخليفة العباسي باني بغداد مدينة السلام. لله دَرُّ من بناكِ بغدادُ،
واللعنةُ أغلظُها على من لوَّثَ ترابَكِ الطاهرَ وأحالكِ دار ظلام.
جبلُ النورِ وغارُ حِراء
عرَّجْنا بعد ذلك إلى جبلِ النورِ، ذلك الجبلِ الذي شعَّتْ منه أنوارُ
النبوة. يقع الجبلُ شمالَ شرقي المسجدِ الحرامِ، فيه غارُ حِراء،
المكان الذي كان النبي يخلو فيه بنفسه قبل أن ينزلَ الوحي،
حتى نزلت اولُّ آيةٍ عليه في هذا الغار “اِقرأْ باسمِ ربِّكَ خلق”.
كنت أرغب في الصعود إلى الغار لولا وعورةِ الطريق.
جبل ثَوْر
ثم توقفنا عند جبلِ ثَوْرٍ، نتطلعُ اِليهِ شامِخًا، يظهرُ أمامكَ اَنّى
ولّيْتَ وجهَكَ في أنحاء مكة. جلبَ هذا الجبلُ لنا وقتًا ماتِعًا
حينما كان ابو المحامدِ يُفاجِئُني وهو يقودُ سيارتَه بقولهِ:
انظرْ جبلُ ثور، وأحيانا يسألني اتعرف ما اسم هذا الجبل؟
حتى اصبحتُ دون تَرَدُّدٍ اُسرعُ لأُجيب: وهل يكونُ إلاّه؟
في أعلى الجبل، يوجدُ غارُ ثور، وهذا الغارُ صخرةٌ مجوَّفةٌ
لها فتحتان، واحدةٌ في مقدمتها والاخرى في مؤخرتها، حيث
اختبأ فيه رسولُ الله مع صاحبه ابي بكرٍ عن أعين كفار
قريش حين الهجرة من مكة إلى المدينة “(إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ
نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ
إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ معنا”.
لقد ترجم لي هذا الجبلُ المعاناةَ التي تحمَّلها نبيُّنا الكريمُ
مع الصِّدِّيقِ، وهما يسلكان طريقًا وَعِرة، قادِمَيْنِ من شِعْبِ
بني طالبٍ، تاركِيْن عليًّا في فراش النبوة، ضمن خطةٍ محكمةٍ،
تحرسُ الجميعَ ملائكةُ الملأ الاَعلى. لَعَمْري كم قرّبَ هذا
الجبلُ صورةً واقعيةً عاشت في رأسي نظريًّا لكني اليوم
أعيشُها واقعًا. وهكذا انتهت فعّاليّاتُ هذا اليوم المبارك
بحصيلةٍ لا تُقَدَّرُ بثمن ليبدأ التخطيطُ لليوم التالي بمشيئة الله.