رِحْلَةُ الطائف – الجزء الأول – … عبد يونس لافي

منبر العراق الحر :

كانت الخطَّةُ أَن نزورَ الطائفَ،
والطائفُ مدينةَ تأريخيَّةٌ،
لها عُمْقٌ لا يمكن التَّغافلُ عنه.
إنَّها مُلتقى جميعِ الطُّرُقِ الرئيسيَّةِ
القادمةِ من شرقِ البلاد وغربِها،
ومن شمالِها وجنوبِها.

في الصباحِ، جاءني ابو المحامدِ،
فيمَّمْنا وجوهَنا شطرَ الطائفِ،
سالكينَ طريقَ عقبةِ الهَدا.
هذا الطريقُ يُعتبرُ من أغربِ
طرقِ العالمِ الملتويةِ،
ويرتفعُ عند مركز الهَدا السياحي،
الى نحو الفَيْ مترٍ،
فوق مستوى سطح البحر.

أخَذَنا الطريقُ في رحلةٍ،
ماتعةٍ مُمَيَّزةٍ حيثُ هدفُنا.
توقفنا فيها على سفحِ جبلِ (كَرا)
بين مكةَ والطائف.
يا لها من منطقةٍ أخّاذةٍ بجمالِها،
تُحيطُها الجبالُ من كلِّ جانب.

ما رأيناهُ رسَمَ لوحةً طبيعيةً رائعةً،
أدخلت إلى قلبي السرور.
راح ابو المحامدِ كما في المرّاتِ السابقةِ،
يدفعُهُ الحرصُ على أَلاّ يُفوِّتَ فرصةً
في تسجيلِ هذه اللحظات الفريدة،
يلتقطُ الصورةَ ثابتةً،
ويتبعُها بأخرى متحرِّكة.
جزاهُ اللهُ خيرًا فالأمرُ تطلَّبَ جَهْدًا
في الحركةِ، وتركيزًا في الاخْتيار،
وأنا له على ما قام به لمن المُمْتَنّين.

بعد مسافةٍ تقرُبُ من 70 كم عن مكَّةَ،
دخلنا الطائف؛ منطقةٌ جبليةٌ يبلُغُ
ارتفاعُها في بعض مناطِقِها 1700 م
تقريبًا فوقَ مستوى سطح البحر،
وتعتبرُ من أكبرِ محافظاتِ منطقةِ مكةَ.

هذه المدينةُ موغِلةٌ في القِدَمِ،
صُنِّفَتْ على أنها من اقدم بلدان العالم،
وما يُميِّزها هو لطافةُ جَوِّها صيفًا،
وخصوبةُ أرضِها مما أتاحَ لها أن
تُنْتِجَ فاكهةً متميزةً متنوِّعة.
اختلف المؤرخون في تسميتِها،
وأنا لست هنا بصددِ ذلك الاختلافِ،
فحسبُها أنَّها الطائف.

سكنتْ الطائفَ قبائلُ هوازِنَ وثقيفٍ،
ومن ثقيفٍ كان اشهرُ والٍ أُمَوِيٍّ حكمَ
العراقِ هو الحجّاجُ بنُ يوسُفَ الثقفِيّ.
انسانٌ بالَغ كثيرًا فيه من كتبوا،
وكثيرًاعَمْدًا أغْفَلوا.

فتى الكُهولِ عبدُ اللهِ بنُ عمِّ الرسول

ما أن وصلنا الطائفَ، حتى توجَّهْنا
الى زيارةِ قبرِ تُرجُمانِ القراۤنِ، عبدِ الله
بن عباسٍ، حَبْرِ الأمةِ وبَحرِها وفقيهِها.
جوارَ المقبرةِ التي دُفِنَ فيها ابنُ عباس،
يرتفعُ شامخًا المسجدُ المُسَمّى باسْمِهِ؛
بُنِيَ زمنَ العباسيين وجُدِّدَ على مرِّ السنين.

عبدُ اللهِ بنُ عباسٍ، قامةٌ من قاماتِ الإسلامِ.
هو فتى الكُهولِ كما كان يُناديهِ الفاروقُ
عمرُ بنُ الخطاب. خطَّ منهجَهُ العلميَّ فريدًا
قائمًا على دِعامتَيْن أساسيَّتيْن:
هما اللسانُ السَّؤولُ والقلبُ العَقول.

لقد كان الرجلُ على قدرٍ عالٍ من العلميَّةِ،
فتبوَّأ مقعدًا بارزًا بين علماءِ الأمة.
لم يتجاوزْ عمرُهُ الخامسةَ عشرةَ حينما
ماتَ الرسولُ، إلاّ أنَّهُ حَظِيَ بدعائِهِ، أن
يُفقِّهَهُ اللهُ في الدينِ ويُعلِّمَهُ التأويل.

قصرُ الكَعْكِيّ

بعد زيارةِ مقبرةِ ابْنِ عباسٍ ومسجدِهِ،
عرَّجْنا الى زيارةِ أحدِ القصورِ التراثيةِ
التي مازجتْ الطرازَ الرومانيَّ بالفنِّ
الحجازي، وهو قصرُ الكَعْكِي في حيِّ السلامة.
هذا القصرُ هو واحدٌ من عديدٍ من المواقعِ
الأثريَّةِ في مدينةِ الطائفِ، مدينةِ الورود.

كنا نحدِّقُ في تصميمِ هذا البيتِ الذي بُني
عام 1358 هجري متضمِّنًا أدوارًا ثلاثة.
لم ندخلِ القصرَ، والمشاهدةُ كانت من الخارج.
وبينما كنتُ أُركِّزُ في زاويةٍ من زوايا القصر،
اذا بصاحبي يتحدّاني في قراءةِ بيتينِ كانا قد
خُطّا فوقَ البابِ الخارجي، وقد حُفِرا في البناءِ
بخطٍّ بديعٍ، عسيرٌ قراءتُهُ، إلاّ بعدَ تَمَعُّن.
لقد ساورني شكٌّ في سلامةِ اوَّلِهِما عروضِيًّا،
لكنّي قلتُ في نفسي ليس معقولًا أن يُتركَ
خطأٌ لسنينَ طويلةٍ يتصدَّرُ هذا المَعْلَمَ دون
تصحيحٍ أو إشارةٍ، على افْتراضِ أنَّ هناك
خطأ، إذن فلا بد لي ألّا أُسْرِعَ في الحكم.

وبعد تمعُّنٍ دقيقٍ اسْتطعتُ أن أُزيلَ الشكَّ
بعد أن اسْتعنتُ بخلفيَّتي في علم العَروض.
كان الشكُّ عندي يعودُ إلى أنَّ البيتينِ كانا
من الكاملِ، وأنَّ الأوَّلَ تضمَّنَ ضَرْبُهُ زُحافًا
مُرَكَّبًا اسمهُ الخَزْلُ، والخَزْلُ يكون عند
الجمع بين الإضْمارِ والطَيِّ في تفعيلةِ
الكامل، فتحوَّلَتْ مُتَفاعِلُنْ في ضربِ البيتِ
الأولِ إلى مُفْتَعِلُنْ بتسْكينِ الحرفِ الثاني
وحذفِ الحرفِ الرابعِ من مُتَفاعِلُنْ.

ربما كان هذا مقبولًا لكني لم اتوقَّعْهُ لأنّي
أَرى أَنَّ زُحافًا مُركَّبًا كهذا، يُسْتَحْسَنُ
تجنُّبُهُ إذا كان في عروضِ او ضربِ
البيتِ، ولا بأسَ إن جاء في حشوِه.
أُعيدُ هنا البيتينِ كما قرأتُهُما:

قَسَمًا بمن رَفَعَ السَّما من غيرِ طَيْ
واخْتارَ خيرَ الخـــلقِ من آل قُصَيْ

لم أبْنِها طمعَ الخــــــــــلودِ وإنما
هي زينةُ الدنيــــــا لِحَيٍّ بعدَ حَيْ

لاحظْ قارئي أنَّ التفعيلةَ الأخيرةَ (الضرب)
في عجزِ البيتِ الأولِ (اۤل قُصَيْ)، جاءت على
وزن مُفْتَعِلُنْ اي أنَّ التفعيلةَ تضمَّنتْ إضْمارًا
وطيًّا فكانت مخزولةً، وهي التي جلبت الشَّك.

غادَرْنا القصرَ بعد أن أنهى صاحبي حديثَهُ
مع أحدِ الاشخاصِ ممَّن صادف أن كان هناك.
فهمتُ من حديثهما أَنَّهما قد خَبِرا المنطقةَ،
وهما يتحدثان عما كانت عليه بعض المحلات
هناك قبل اكثرَ من نصفِ قرنٍ وكيف اصبحت.

مسجدُ الْقَنْطَرَة

ذهبنا بعد قصرِ الكَعْكي الى مسجدِ الْقَنْطَرَة.
ومسجدُ الْقَنْطَرَةِ واقِعٌ على سفحِ جبلِ مدهونٍ.
بناهُ العثمانيون؛ رائعٌ تصميمُهُ، جميلٌ شكلُهُ
وبنيانُه، لطيفةٌ منارتُهُ، اسطوانيةً تتدرَّجُ
بِلفّاتِها التي تأخذُ بالنحافةِ حتى تصلَ أعلاها.

مسجدُ الكوع

بعد الْقَنْطَرَةِ زرنا مسجدَ الكوع. وهو مسجدٌ
آخرٌ من مساجدِ الطائفِ التاريخية، ويقعُ في
وادي وَج اسفلَ جبلِ أبي زبيدة.
أُقيمَ في الموقعِ الذي يُقال أنَّ الرسولَ توقَّفَ
فيه بعدما أُوذيَ من سفهاءِ اهلِ الطائفِ
وصِبْيانِها ولذا يسمى أحيانا بمسجد الموقِف.
وسُمّيَ أيضًا مسجدُ الكوعِ حيث يقال انه
جلس هناك واتَّكَأَ على كوعِه (مرفَقِه).

مسجدُ الكوعِ هذا مسجدٌ بسيطٌ في بنائِهِ،
لا يتعدّى ان يكونَ مربّعًا، ضلعُهُ ثمانيةُ أمتارٍ
تقريباً، يحيطُ به سورٌ واطئٌ، محرابُهُ صغيرٌ
وله فناءٌ مكشوف.

غادرْنا المسجدَ ثم صلَّيْنا الظهرَ َوالعصرَ،
قصرًا وجمعًا في مسجدٍ صغيرٍ قريبٍ من
الكوعِ، مقابلَ قصورِ الاشرافِ في المثناة.

اترك رد