استلهام تناص الاسطورة لمديات الواقع الحالي في ( فراديس إينانا ) للشاعر يحيى السماوي

منبر العراق الحر :

يتألق الشاعر السماوي في براعة مدهشة , في توظيف الأسطورة السومرية , فى الحب والعشق , ويغرد بهما في قيثارته الشعرية , لصالح الوطن والناس , يستلهم البعد الأسطوري لمجريات الواقع والأحداث الجارية على أرض أوروك الحالية . يحلق في النص الشعري الى السماء العالية , يخفق في جناحي البلاغة الراقية وقوة الصياغة الشعرية , كأنها عجينة  بيد فنان تشكيلي محترف , يشبعها بزخم من المفاهيم التي تمتلك  وفرة  الإيحاءات  والترميز الشعري ,  يغرف من ينابيعها   الرؤية الفكرية والتعبيرية عميقة الدلالات  , بما يملك من قدرة فائقة في توظيف محسنات البلاغة , وقوة الإلهام في خياله الفني , هذه المقومات الزاهية  , تعطي  الدلالات البليغة في المفاهيم  المستخرجة من  عمق الاسطورة السومرية , يضعنا في حالة الإبهار , في براعة الشعر في الاسطورة , أو براعة الاسطورة في الشعر , وهي ليست عملية سهلة الانقياد , إذ تتطلب مقومات اساسية لاغنى عنها , في الاستلهام والتناص من داخل الاسطورة , يعني ماهية  الأسباب  والدوافع والغاية والمرام في الانزياح الشعري في الأسطورة , الانزياح في الرؤية الفكرية والفلسفية  , في حالة اسقاط الاسطورة على مجريات الواقع الحالي , وكذلك حالة الاستلهام والتناص برؤية حديثة تمتك تداعيات  الوقائع الجاري , بالظروف والمستجدات  والتغيرات الطافحة على السطح  ,  ويجند مخزونه الثقافي والمعرفي والادبي والشعري , في تجربته الشعرية الخلاقة , التي تربعت على قمة الشعر العربي الحديث والمعاصر , يعطيها نكهة ومذاق حلو في طراوة الحبكة الشعرية  . مشعة بالتناص في الاسطورة والدين وخاصة آيات القرآن الكريم والتراث  والتاريخ , بحلم التغيير والتجديد في بناء أوروك الجديدة , نحو بناء  المدينة الفاضلة حارستها أله الحب ( إينانا ) . بعدما انحرفت أوروك الحالية من رحم الاسطورة السومرية وابتعدت عنها  , وتجاهلت ان الاسطورة السومرية , التي  أقامت  صرح حضاري عريق وشامخ , لذلك السماوي يسعى في الاعادة  الصرح الى الاصل , وازالة الشوائب والعيوب في اوروك الحالية ,  لترجع الى مهدها الحضاري التليد , لا يمكن أن يتم إلا بالحب في إنشاء المدينة الفاضلة وفلاحها  اله العشق ( اينانا ) . بدون شك أن النص الشعري عند السماوي يملك نفس عميق وطويل , وكذلك يملك ضوئية مشعة في الامتداد والاتساع من الحضارة السومرية إلى المجريات اليوم  الحالي , أي أن النص الشعري يملك رحلة طويلة يخترق امتدادات الازمنة  ليصل الى  محطته  الحالية  , حتى يبرر دوافع   اقامة صرح المدينة الفاضلة , هي من صلب الضرورة القصوى , وحاجة ملحة من اجل انقاذ اوروك من التبعثر والتشتت . بما يملك السماوي من نزاهة في  التربية والثقافة  الوطنية الزاهية , التي زكتها  الأعوام الطويلة من النضال والكفاح الوطني , فقد جند كل مشاعره  في الدفاع عن المظلومين والمحرومين  , وعن آلام  الوطن  . وعانى من  الاهوال والصعاب الشاقة  من نهج النظام الشمولي في الارهاب والاضطهاد , وما عانى من الغربة والاغتراب , ورغم الاعوام الطويلة أكثر من نصف قرن . لكنه ظل وفياً على العهد  , كأنه مطبوع في أعماق  قلبه واحساسه الوجداني  الصادق . ان الحكمة من توظيف الاسطورة السومرية . كي يدلل بالبرهان الساطع ,  ان صرح الحضاري تم بناءه بالحب , ولهذا يدلل بأن الحضارات القديمة , أعطت للحب مكاناً بارزاً , ضد الثقافة والعقلية المتزمتة بالتعصب الأعمى والكراهية , بالحب يقتل الوحش الضاري داخل الانسان , وهذا ما أكدته الاديان  السماوية والرسل والانبياء . ومثال ( انكيدوا ) بطل ملحمة جلجامش تحول من الوحش إلى الإنسان  بواسطة الحب , ليصبح  ملاك الحب والانسانية , هذه الرحلة الطويلة لقصائد المجموعة ( فراديس إينانا ) , ترسم كل مؤشرات قوام  الصراع الأزلي القائم منذ ذلك العصر وحتى يومنا هذا , هو صراع بين قوى الخير وقوى الشر , الصراع بين بناء الحب في المدينة الفاضلة , أو بناء مدينة الشر والكراهية   حارسها الوحش ( خمبابا ) أو احفاده , أو باختصار هو صراع بين ( انكيدو ) بطل الحب , ضد المدينة ( الديستوبيا / المدينة الفاسدة ) وحراسها احفاد ( خمبابا ) في المنطقة الخضراء . هو صراع من أجل  اعادة خيرات أوروك إلى أصحابها  الشرعيين .
لنأخذ شذرات من المجموعة الشعرية ( فراديس إينانا ) :
×× التمرد على ارباب الالهة :
ليس بالغريب والعجيب  , الخروج  بكسر عصا الطاعة للالهة . كما حدث في الميثولوجيا الاغريقية , في حالة ( بروميثيوس ) على رب الالهة ( زيوس ) عندما لاحظ ان الالهة تعيش في نور باذخ , وعامة الشعب تعيش في ظلام دامس , فسرق النار أو النور ومنحها الى عامة الناس . وكذلك في حالة ( سيزيف ) تمرد واحتج على رب الارباب ( زيوس ) عندما لاحظ ان الالهة تتاجر بالزيف  وخداع الناس  , وغياب العدل الإلهي , فكشف زيف رب الأرباب لعامة الناس في بيع الأوهام  بالمجان . والسماوي اقتنص  هذه الفكرة  التمرد على الالهة  في الخلق والابتكار بالرؤية  الفكرية الناضجة . في هبوط آلهة الحب (إينانا ) من عرشها الإلهي العلوي ,   الى العالم السفلي الى  عامة الناس .  احتجاجاً على رب الأرباب  ( أنليل ) الذي يكنز الذهب والفضة والتبر , ويكسو الريش الناعم والحرير المطرز بخيوط الذهب ,  رحاب المعبد الأخضر أو ( المنطقة الخضراء ) وترك عامة الناس في الظلم والحرمان في وادي اليتامى , والالهة  الزور   في ( المنطقة الخضراء ) يكنزون الذهب والدولار على شقاء ومعاناة عامة الناس . الاحتجاج على عهد السلاطين السمان , النائمون في العسل , وعامة الناس حصتهم الكاملة من العجاج والغبار .
      εικόνα.png     هَبَطتْ من بُرجِها العلويِّ إينانا

احتِجاجاً

ضدَّ أنليلَ وما يكنزُ من تِبرٍ

ومالٍ وقِيانْ

*

ورياشٍ في رِحابِ ” المعبدِ الأخضرِ “

في وادي اليَتامى ..

والمُرائينَ المُصَلِّينَ أمامَ الناسِ

جَهراً ..

××

 

جـابَـتِ الأحـيـاءَ

تَـسـتـقـرئُ حـالَ الـنـاسِ فـي أوروكَ

فـي عـهـدِ الـسـلاطـيـن الــسِّــمـانْ

*

فـرأتْ ما لـمْ يَـرَ الآلـهـةُ الأعـلـونَ :

أكـواخـاً مـن الـبـرديِّ والـطـيـنِ ..

قـصـوراً ..

وقـلاعـاً  ومَـغـانْ

/ من قصيدة : هبوط إينانا من عالمها العلوي .

×× فردوس مدينة العشق الفاضلة : هذا الفردوس هو اعادة   معايير العدل الإلهي والحق الشرعي المفقودة   . في  هذا الفردوس الذي سيقام على جنة الأرض , ليس مباحاً بالدخول اليه  , لكل من هب ودب ,  ومن فج عميق , وليس هو كسفينة نوح , حملت الشريف والفاسد , والنزيه واللص , والجلاد والضحية , والوطني والخائن , والقاتل والمقتول , فمنْ الذي يمنع من الدخول لهذا الفردوس ؟  .

 

وأنـنـا

سـوفَ نـقـيـمُ لـلـهـوى مـديـنـةً فـاضِـلـةً

نـمـنـعُ مـن دخـولِـهـا الـمُـلـثَّـمـيـنَ الـمِـسْـخَ ..

والـمُـجـاهـديـنَ الـزُّورَ ..

لا مـكـانَ فـيـهـا لـلـمُـضـاربـيـنَ فـي سـوقِ الـمـحـاصـصـاتِ

أو لـسـاسـةِ الـصـدفـةِ بـاعـةِ الـشـعـاراتِ

ومَـنْ جـاءَ بـهِ الـمـحـتـلُّ مَـأمـوراً

فـأضـحـى بَـيـدقـا

*

فـي لُـعـبَـةِ الـنـهـبِ

وفـي تـحـويـلِ أوروكَ شـتـاتـاً مِـزَقـا

*

مـديـنـةً فـاضـلـةً

يـدخـلـهـا الأطـفـالُ والـعـشـاقُ والـغـزلانُ والـظِـبـاءُ

لا يُـعـرَفُ فـيـهــا الـفـرقُ بـيـنَ حـاكـمِ الـقـصـرِ ومـحـكـومٍ

وبـيـن عـازفِ الـقـيـثـارِ فـي الـشـارعِ

والـنـاسِـكِ فـي مـحـرابـهِ تـخـنـدَقـا            / من قصيدة : مدينة العشق الفاضلة

×× لست بكافر وإنما الجوع كافر : حينما تبدل العمامة الدينية بعمامة الشيطان  , وعندما يكون كاهن المعبد دجال , وولي الامر لص , والعاهر يلبس ثوب الشرف  والعفة , ومجاهدي الزور يطمغون جبينهم بالذهب والدولار , عندما يسرق رغيف الفقير , وعندما يلطخ الدولار  بدماء شهداء الوطن , فما هي شرعية هذا الدين ؟ , وما مدى صلاحيته امام رب العباد ؟

 

 لـسـتُ بـالـكـافـرِ

لـكـنْ

كَـثُـرَ الأربـابُ فـي أوروكَ  ..

كـلٌّ ولـهُ  فـي سُـورةِ ” الـكـرسـيِّ ”  تـفـسـيـرٌ وزعـمٌ

ولـهُ مـالٌ وجـنـدٌ ..

لـسـتُ أدري أيُّ ربٍّ أتَّـقـيـهْ

*

كـاهـنُ  الـمـعـبـدِ لـصٌّ  ..

وولـيٌّ الأمـرِ دجّـالٌ ..

وكـلٌّ يـطـلـبُ الـبَـيـعـةَ فـي أوروكَ  ..

كـلـكـامِـشُ بـاعَ الـسـورَ واسْــتـوزرَ أصْـهـارَاً

وأضـحـى قـارئُ الـفـنـجـانِ والـكـفِّ فـقـيـهْ

*

فـإذا الـسـارقُ  قـاضٍ

وإذا الـنُّـكْـرُ وجـيـهْ              / من قصيدة : الإمتلاء فراغا

×× اعترافات أنكيدو في الوقت الضائع : حالة أنكيدو هي تجسيد لحالة العراق , الذي يسير من السيء الى الاسوأ , ومعاناة انكيدو هي معاناة العراق الكاملة  , ولكن  لم يكمل رسالته في إنقاذ اوروك  من الغرق  , ان شخصية أنكيدو , تتجسد في روح كل عراقي يحلم بالوطن والخبز والحرية والعطاء الانساني , لذلك نشعر بالاسف والندم والاسى , بإجهاض  حلم الأصوات الوطنية التي تحمل الحب والوفاء إلى اوروك الحالية , لم تحصد شيئاً من  تعب السنين سوى الغبار والسموم , فقد سرق الحقل والبيدر احفاد ( خمبابا ) , ونهبوا الجمل بما حمل .

 

أنـا مَـنْ جـنـحـتُ عـن الـصـراطِ الـسـومـريِّ  ..

بـريـئـةٌ ” شـامـاتُ ” مـن إثـمـي

فُـحُـقَّ عـلـيَّ أنْ أحـيـا الـحـيـاةَ

شَــقِــيّــا

*

أزِفَ الـرحـيـلُ

وهـا أنـا

يـقـتـاتـنـي نـدمي ـ ولاتَ نـدامـةٍ ـ (3)

أبـكـي عـلـى غـيـري غـدوتُ

ولـم أعــدْ أبـكـي مـن الـنـدمِ الـمـريـرِ

عـلـيّـا      / من قصيدة : اعتراف  أنكيدو

××   أنكيدو الشهيد الحي والحي الشهيد :

واهم  ويحرث في وهم الخيال والسراب ,  منْ يعتقد النوم في العسل و ( دار السيد مأمونة ) وانتهى المطاف وترملت اوروك  وشطبت الأعياد وحلت الأحزان , وماتت انتفاضة تشرين تحت حوافر احفاد ( خمبابا ) وسلمت الامارة الى سلاطين السمان  ,  خطأ  والف كلا , تبقى منارة أنكيدو تشتعل تحت الرماد, هي الشرارة  التي تشعل بركان الغضب   . في ولادة ملحمة جديدة ,  ويظل انكيدو الرمز  والبطل  ,   الشهيد الحي والحي الشهيد .

 

مـات أنـكـيـدو

و” إيـنـانـا ” غـدتْ أرمـلـةَ الأعـيـادِ فـي أوروكَ

والـثـكـلـى بـ ” مـشـحـوفٍ يـطـرُّ الـهـورَ “

أنـكـيـدو الـشـهـيـدُ الـحـيُّ

والـحـيُّ الـشـهـيـدْ        / من قصيدة : انكيدو الشهيد الحي والحي الشهيد .

جمعة عبدالله

 

اترك رد