منبر العراق الحر :
في حوارٍ مع الملحنِ الكبير طالب القره غولي الذي غادرَ الحياةَ بما يشبهُ الزعل في مثلِ هذه الأيام من عام 2013، يجيبُ سائلُه الدكتور حبيب ظاهر العباس صديقَه القديم الذي الّف كتاباً عنهُ بعدَ رحيلِه بالقول : “إنّ شعوري نحوَ مؤلفاتي شعورٌ عجيب حقاً فانني لا أكاد أفرغُ من انجازِ لحنٍ حتى اشتغلَ بغيرِه، وينصرفُ كلّ جهدي وتفكيري الى اللحنِ الجديد ، فلا أكاد افكرُ بنسيج الالحان التي سبقتْ اللحن الذي أنا عليه وكأنّ الفكرةَ تاتي هابطةً كالوحي ، وهي إجابة قريبة مما يردده طالب دائما ان ما انجزه لايشغلني وأخاف أنْ يبهرَني فانصرفُ الى ما يليه ، والعجيب في الأمر أنْ هذه العبارة والفكرة ترد في معناها على لسان الساحر بليغ حمدي في تسجيل رائج على صفحة تعنى بنتاجه ، يقول أخافُ أنْ أعجب بلحنٍ لي وأنا أسمعه ، الاعجاب بمنجزي يعطّل الكثيرَ من قدراتي فلم اعد انافس نفسي! . ربما تبدو مصادفة أو انها نهجٌ يختطّه المبدعون الكبار الذينَ نَجهلُ الغايات الدفينةَ في نفوسهم لما ينتجون. بين بليغ وطالب هناك حبلٌ سري في انتاج الجملة الموسيقية المنقوعة بالعاطفة والسحر والإلفة، حبلٌ سرّي يربط بين رنين القلب في ( ياحبيبي ، بس الك وحدك كلتهه) .. و (في يوم وليلة ذقنا حلاوة الحب) بين ( ميمر يابو خد وخد) و(عالياليل ياليل ياليل)، آصرة بين فيضانين من العاطفة المهذبة بجمالٍ لعوبٍ فاتن أخّاذ .في مصر عام 2007 خلال اعدادِنا لأوبريت انتجته قناة البغدادية عن العراق، كنّا معاً في منزلي على مائدة سمك مقلي، قلتُ لطالب : الاترى وشيجة ًبين روحية بليغ حمدي وروحيتك في الألحان، خاصة التأمل في الجملة كلمة كلمة ، وادخال الموسيقى الراقصة وسط فخامة المشهد الغنائي، وتعدد المقامات في الأغنية،وهذا النسيج الشفيف بين صوت الريف والمدينة ، مسافة لاتُرى لكنّها تُحَس بين( “مر واتعده وتاهت روحي” في الخلخال عندك واغنية عدوية الشهيرة لبليغ التي غناها محمد رشدي. بين اغنية “روحي” واغنية “الطير المسافر” لنجاة، أجابني باسلوبه الحلو المعتاد: (المخابيل يتشابهون) .
ورغم أنّ ذلك تعبيرٌ ساخرٌ، لكنّه ليس عابراً فالمبدعون الكبار الاستثنائيون إذا ما اعتبرنا الإبداعَ نوعاً من الشذوذ عن المعتاد يلتقونَ عندَ نقاطٍ غامضة.أكثرها غموضاً أنّهم يشعرون بأنّهم أكبرُ من أعمالهم، وأنّ مايقدمونَه حياةٌ مفتوحةٌ وجهد دائم وليس مشروعا محددا متكاملاً كما نسمعُه ونشاهدُه مع كل اغنية . تراهمُ لايتعالونَ الا على أنفسِهم ليبدعوا أكثر ويبدونَ اكبر،.
بليغ الفتى المصري الذي يلحن سيرة الحب لام كلثوم وبنج بنج لاحمد عدوية وابتهالات دينية للشيخ النقشبندي كأنّ به شراهة لتلحين الناس والحياة كلها. يقابله طالب الذي يرقص كالذبيح في ألحانِه في حسبالي وعزاز وحن وآنه احن . مع الفرق بين حدائق مصر وحشود الكبار من المطربين والملحنين ، وجنائن هنا وهناك في العراق مزروعة بالفلكلورات وغناء المناطق، حتى اقتحمها شبابُ الحداثة طالب القرة غولي وكوكب حمزة ومحسن فرحان ومحمد جواد اموري ومن بعدهم الذين قلبوا دنيا الغناء رأساً على عقب، أكيد المتابعونَ المختصون والنقادَ يعرفون خفايا ذلك ومالذي حدث بالضبط.
هذه الروح النادرة التي قررتْ البقاءَ الى الأبد وهي تديرعواطف البشر جيلا بعد جيل كانت عظيمة بحجم تواضعها وعدم الطوَفان بنجاحاتِها الفذة، التي يُهرَعُ الناسُ لها جموعاً ، فيما يعودون هم فرادى الى وحدتِهم وانشغالِهم بالجديد دائماً ليبقيا يغذيانِ الجمالَ في حياتِهما وبعدَ رحيلِهما معاً..
مقال الاربعاء على عراق اوبزرفر

