منبر العراق الحر :
تساؤلاتٌ عدّة تدورُ في فلك فنِّ الكتابة، بعضهم يُعزيها لشيطانِ الكتابة، وآخر للرُّوح الأمين، وثالثٌ لقوةٍ منحتهم إياها الآلهةُ والسَّماء، ورابعٌ يعتبرُ مصدرَ إلهامهِ الثّوراتُ والممارساتُ الاجتماعية، و خامسٌ يوّحدُ بين المنابعِ الشّيطان والإنسان والسّماء و الأرض والله والشَّعب، ويجعلها جميعاً مصدراً لإلهامه.
مثّلَ لنظريةِ الشَّيطان الشِّعري الشَّاعر أمرؤُ القيسِ بوجهين الأوّلُ يقولُ : إنَّ الجنَّ تُخيره أشعارَها وأنّه يصطفي من شِعرِ الجنِّ ما يشاء.
والثَّاني: إنَّهُ يثقّفُ شِعره تثقيفاً فهو الشّاعر الموهوب الذي تتحلقُ حوله توابعهُ من الجنِّ لتأخذَ منه ما يقول فترويه و تعزفه .
في حين ميَّز ابن عربي بين التّنزيلِ على قلبِ النَّبي، ونوعٍ آخر من الرُّوح تَتنزلُ على البشر فتُلهمهم.
في كتابهِ الفتوحاتِ المكيةِ يصفُ الإلهامَ فيقولُ :
“ما كتبتُ منه حرفاً إلا من إملاءٍ إلهي، وإلقاءٍ رباني، أو نفثٍ روحي، في روعِ كياني، هذا جملة الأمر، مع كوننا لسنا برسلٍ مشرعين و لا أنبياء مكلفين”.
إنَّ إعادة النَّظرِ بمراتب الوجود في هذه التَّنزيلات، تُظهرُ الخيالَ وسطاً بين عالمِ الحسِّ وبين عوالمِ المُثل والنَّفس والأرواحِ والمعاني.
هذا وإن كانَ منبع الإلهام عند ابن عربي، الرُّوح الأمين، فعند هوميروس ربة الشِّعر، فكل عبَّر عن منبعِ إلهامهِ بعبارةٍ مميزةٍ تُناسبه.
ونقرأُ أيضاً عن صعودِ الإلهامِ من الممارسةِ الاجتماعيةِ، كقصائد المتنبي في ممارسات سيف الدولة، وقصائد أبي تمام في ممارسات المعتصم، ومن قبلهما قصائد عنترة في ممارساته الاجتماعية في سبيل حريته الفردية وفي سبيل قومه.
هذا من الوجهة العربية ..أمّا من الوجهةِ الإنسانية فإنٍَ الأمر لا يختلفُ، فالكتَّابُ أوربيون وسواهم عبّروا عن الثَّورات وقِيم الوطنِ والشَّعب.
والسُّؤال هل تتعددُ المنابعُ وتتحدُ كما يتحدُ أفرادُ الأسرة في الأصلِ الواحد ؟
ألا يمكن أن تكون أسباب الخلق الفني منوّعة ؟
فقد تكونُ تجربة الحبِّ للمرأة منبعاً يُلهم، وقد تكونُ تجربةَ الاحتكاك بالطبيعةِ والثَّقافات منابع أخرى، وقد تكون أحلام النَّوم، أو اليقظة منابع أخرى، وكل أثر كتابي يجيءُ من منبعٍ إلهامي، ليحققَ غاية من الغايات، والغايةُ تنتجُ من السَّبب.
كتبَ عباس محمود العقاد كتاباً أسماه ” أنا ” تحدّث فيه عن ثلاثة أشياء جعلته كاتباً
“التَّشجيع..والظّرف.. والميل أو الرّغبة ”
فيبدو من قول العقاد أن منابع الإلهام ذاتية تتجلى بالميل والرَّغبة وخارجية حين يدعمها الظَّرف والتَّشجيع، وهي لا تتنافى مع ما سبق بل تضيفُ عليها.
إنَّ البحثَ في المفاتيح الإلهامية يفتحُ آفاقاً تعبيرية للأثر، ويضيفُ ألواناً معرفية جديدة وبعداً أعمق، والبوح بها ليس مُتوجباً على الكاتب، فهي تَظهر جليةً عند القراءةِ والمتابعة، وبقدرِ غناها وصدقها تطمئنُ لها الصُّدور، وتشرقُ في القُلوب.
