منبر العراق الحر :
“13 آب (أغسطس)” ليس يوماً عاديّاً في تاريخ تونس. فقبل 67 عاماً اختار الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة هذا اليوم لإصدار مجلّة الأحوال الشخصية، أول إعلانات دولة تونس المستقلّة الذي ظلّت تفاخر به إلى اليوم، لريادتها في مجال حقوق النساء. ولا يزال هذا التاريخ يوماً غير عادي بالنسبة للمدافعين عن حقوق النساء، الذين يطرحون الأسئلة عن حقيقة تواصل هذه الريادة وعن واقع نساء بلدهم، معبّرين عن خوفهم على مستقبله.
بورقيبة… صفحة جديدة للنساء
اختار بورقيبة أن يدشّن حكمه لتونس كرئيس، بحدث تاريخي أعلن فيه انتصاره للمرأة نازعاً عنها “السفساري” (لحاف نسائي تقليدي)، الذي طالما التحفت به وكان رمزاً لقيدها، في حركة أعلن معها فتحه لصفحة جديدة لنساء تونس المتحرّرات من كل القيود حتّى أنّ نساءها صرن يُلقبن بـ”بنات بورقيبة”.
أرسى بورقيبة تقليداً جعل من المرأة قلب المشروع الحداثي للدولة والمجتمع، وعلى امتداد سنوات طويلة كان يوم 13 آب الذي صار عيداً وطنياً للمرأة في تونس حدثاً غير عادي، رغم الانتقادات الكثيرة التي طالته حتّى من مدافعين عن قضايا النساء.
ثمة إجماع في تونس على أنّ الاحتفال بتاريخ 13 آب أو “عيد المرأة” كما صار يُعرف رسمياً، دائماً ما كان ممزوجاً برائحة السياسة ومتلوناً بلون السلطة الحاكمة للبلد. فعلى امتداد عقود طويلة كان الاحتفال بذكرى إصدار مجلة الأحوال الشخصية تاريخاً لتأكيد السلطة السياسية التزامها الدفاع عن قضايا المرأة وحرصها على العمل على مزيد من الدعم لحقوقها، سواء من خلال التوقيع على اتفاقية جديدة أو الإعلان عن قانون جديد يمنح امتيازاً جديداً لنساء تونس.
المنعطف
لكن المنعطف الحقيقي في الاحتفال بذكرى إصدار مجلة الأحوال الشخصية جاء بعد حدث 14 كانون الثاني (يناير) 2011، التاريخ الذي أعلن سقوط حكم الرئيس زين العابدين بن علي وبداية حكم الإسلاميين في تونس.
منذ ذلك التاريخ تحوّل يوم 13 آب إلى يوم ذي طابع خاص لم يخل بدوره من رائحة السياسة، فهذا اليوم الذي لطالما كانت توصف احتفالاته سابقاً بـ”الفولكلورية” من أجل الترويج لسلطة تؤمن بحقوق النساء وتدافع عنها، تحوّل إلى يوم للتوظيف وللصراعات السياسية، بين سلطة تُتهم بمعاداتها للنساء ورغبتها في إعادتهن إلى البيوت، ومعارضة حزبية ومدنية خاصّة جعلته “محطّة للنضال من أجل الدفاع عن مدنية تونس وعدم السماح بالانحراف بنمطها المجتمعي وفرض الوصاية على نسائه”.
سجال مصطلح “بنات بورقيبة”
استطاع المجتمع المدني في تونس أن يعيد ليوم 13 آب بريقه خلال عشرية حكم الإسلاميين، بعدما أخرجه من خانة “اليوم الفولكلوري “إلى “خانة يوم النضال”، وعادت تسمية ”بنات بورقيبة” لتظهر إلى العلن مجدداً، في إشارة إلى الصراع الذي خاضته النساء ضدّ الإسلاميين من أجل فرض نموذج مجتمعي مدني تكون فيه للمرأة مكانة كبيرة. على الطرف الآخر، كان الشق المحافظ يستعمل هذه العبارة لتبخيس هذا الحراك النسوي، مطالباً بالعودة الى “أحكام الدين وأخلاق المجتمع وتقاليده”.
ظهر الصراع بين القوى المدنية والقوى المحافظة خصوصاً في السنوات الأولى التي تسلّمت فيها “حركة النهضة” الحكم، وكانت مسيرة “حرائر تونس” يوم 13 آب 2013، التي انطلقت من ساحة باب سعدون في العاصمة لتلتحق بـ”اعتصام الرحيل” في ساحة باردو على بعد أمتار من برلمان “النهضة” بعد أيام من اغتيال النائب المعارض محمد البراهمي، من أبزر العلامات الفارقة في هذا الصراع.
المنعطف الآخر في الاحتفال بتاريخ 13 آب (أغسطس) كان مع وصول الرئيس الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج، إذ كان يقدّم نفسه على انّه سليل الفكر والمدرسة البورقيبية، وسعى لتأكيد ذلك والاستثمار فيه سياسياً. وفي السياق كان إعلان مبادرة المساواة في الإرث وإلغاء منع زواج التونسية من غير المسلم من أبرز ما قدّمه لنساء تونس. لكن السبسي اصطدم بمعارضة كبيرة في ما يتعلق بمسألة الميراث منعت إقرارها قانونياً.
عهد سعيّد
منعطف آخر جديد عرفه هذا التاريخ مع وصول قيس سعيّد إلى قصر قرطاج، فالرئيس الذي يوُصف بـ”المحافظ ” اكتفى باحتفال يتيم خلال سنة حكمه الأولى في “عيد المرأة” ضمن احتفال رسمي بقصر قرطاج أعلن فيه تمسّكه بما جاء في الشريعة بخصوص مسألة الميراث، لكنه عاد ليفاجئ الجميع حين اختار أن تكون نجلاء بودن أول رئيسة حكومة في تاريخ تونس، في خطوة رأى كثيرون أنّها تدحض ما روّج عن معاداته للنساء.
يجمع خبراء على أنّ القوانين التونسية متقدّمة في ما يخصّ حقوق النساء، إذ إنّ ثمة حرصاً عاماً على تعزيز هذه الترسانة التي كانت انطلاقتها قبل 67 عاماً مع إصدار مجلة الأحوال الشخصية، لكن الإجماع أيضاً حاصل بشأن واقع النساء في تونس.
لا يختلف المدافعون عن حقوق النساء على توصيف واقع المرأة في البلاد، مؤكّدين على التراجع الكبير في هذا المجال. وتقول رئيسة الاتحاد الوطني للمرأة راضية الجربي إنّ المرأة التونسية فقدت ريادتها مقارنة بتجارب كثيرة في المنطقة.
أرقام عنف مقلقة
تحدثت الجربي بحسرة لـ”النهار العربي” عن “واقع أليم” تُعنّف فيه المرأة وتُقتل على يد زوجها أو أحد أفراد عائلتها وتُسلب فيه حقوقها الاقتصادية في مدن تونس وأريافها، مؤكّدة أنّ نسبة ارتفاع منسوب العنف ضدّ النساء، سواء كان في الفضاء العائلي أو المهني أو العام مخيفة، إذ تؤكّد كل الأرقام أنّها في تصاعد مستمر.
وفي بيانات جديدة للمنظمة النسوية كشفت قبل يومين تسجيل 24 جريمة قتل نساء منذ بداية العام الجاري، وهو ما يؤكّد بحسب الجربي “أنّ القوانين المناهضة للعنف في تونس وجلّ البرامج الموجّهة لدعم المرأة لم تنجح إلى حدّ الآن في حمايتها بالشكل الكافي ضدّ كل أشكال العنف المسلطة عليها”.
تعرّج الجربي أيضاً على حضور النساء في مواقع القرار وفي الحياة السياسية، مؤكّدة أنّ العقليات السائدة تتعامل معهن بنظرة دونية، رغم أنّ نساء تونس لم يتخلّفن في الدفاع عنها وكنّ في الصفّ الأول للذود عن مدنية الدولة.
لم تتراجع تونس عن حقوق منحتها قانوناً لنسائها، ولم يخفت حضور بناتها في جميع المجالات والقطاعات، بل إنّ عدداً مهماً منها بدأ “مسيرة التأنيث”، لكن ذلك ليس كافياً في نظر المدافعين عن حقوق النساء ممن يعتبرون أنّ “مسيرة النضال في سبيل تغيير العقليات لا تزال طويلة”.