منبر العراق الحر :
بأيِّ الوسائل يمكنُ أنْ نُمسكَ بشذراتِ الوهمِ وما يتجسدُ أمامنا من صروفاتِه التي كنا نتثبتُ من خطواتِ حضورِها علانيةً حين نجالسُ القاصَ والروائيَّ والناثرَ والمترجمَ وصاحبَ الخطِ الازليِّ بجمالِه وصاحبَ الجملةِ القصصيةِ الرشيقةِ المبدعَ محسن خريش(الخفاجي)؟
هو واهمٌ كبيرٌ إذ يشتبكُ الوهمُ ليكونَ محفزاً ومؤرقاً لديمومةِ الخيالِ عنده وتلك من الخصال التي يتفردُ بها وبشكلٍ مثيرٍ عند مَنْ يقرأُ له أو مَنْ يُجالِسُه عن قربٍ فتستحيلُ له شرفاتُ اللحظاتِ التي تظللُ من مقامِ تواجدِه فيوضاتٍ من الدهشةِ والإثارةِ وربما تبعثُ على الغرابةِ لينبزَ لنا التساؤلُ المُحيِّرُ عن إمكانيةِ تلكَ المسايرةِ الغريبةِ وذلك التواشجُ المزمنُ الذي تتلبسُ به دواخلُ ( الخفاجي) في القولِ والتبصرِ والسلوكِ ومن دون براهينَ الخدعةِ أو الحيلةِ أو الإدعاءِ المزيفِ بل هو تواشجٌ يسيرُ صائلاً نحو نصاعةِ الأثرِ عند عتباتِ الحقيقةِ وزهوِها الأصيلِ فتبدو روحُ (الخفاجي) ناثرةً من عندياتِها بكلِّ مهابةِ الحضورِ ورشاقةِ المعنى الذي رانتْ به حيثُ هي تتجذرُ واضحةً لا لبسَ في مثولها
الوهمُ لديه ليس بتلك العلةِ المرضيةِ المتعارفِ عليها بل هو أحدُ الركائزِ والمحفزاتِ التي يتمسَكُ بها(الخفاجي) لتُزجي به نحو الرصدِ والتطلعِ لما يُسْتَجَدُ عنده من موضوعاتٍ أو أفكارٍ تتداخلُ لتَحْصُلَ عمليةُ التخادُمِ المثيرِ مابين محفزاتِ المخيلةِ وبين ماتدفعُ به سريرةُ الوهمِ التي صارت تتجذرُ فيه وبحيويةٍ لافتة
فالوهمُ عنده ليس اداةً للتسليةِ وهنا يتقاطع مع قولِ الشاعرِ محمد مهدي الجواهري:
وكم سَلَّيْتُ بالاوهام نفسي
وغَطيتُ الحقيقةَ بالخيالِ
بل يبدو الوهمُ لديه مساحةً يتواشجُ فيها ذلك المُتَصَيَّرُ من تلك القدرةِ العجيبةِ لإنتاج ما هو يتماشى ولذةِ الخيالِ فلايبدو على روح (الخفاجي) أنَّها تتلبسُ باثوابِ الحكمةِ والتعقلِ والتبصرِ التي تكادُ الاوهامُ تختفي عندها أو تقترب من حدود مايعيشه من واقع بل وجدْناه يتمترسُ بمداراتِ الوهمِ ولذةِ المخيلةِ وكأننا به ناضحٌ بإبداعٍ تدفعُ به راياتٌ من الوهمِ والخيالِ تلوحُ بمزاجٍ يكاد يبتعدُ عما يمور به واقعه من حقائق صادمة بالمرارة وروتين يبعث على السأم
ولكي يتماشى قولنا مع حقيقة ما طرحناه آنفاً نورد هذه الحادثة الحقيقية التي شاهدتها وسمعتها مباشرةً من فم (الخفاجي) إذ إلتيقتُ به كعادتي يوماً يجلس على اريكة أمام مقهى قرب مقر مبنى محافظة ذي قار جنوب العراق هجرها صاحبها بعد دخول قوات المارينز الأمريكية إلى مدينة الناصرية في يوم 23-3- 2003 وفي ذلك اليوم وجدته ساكناً يضع رجلاً على رجل ويقرأ كعادته فقلت له بعد التحية: ها ابو علاوي شنو الوضع؟ فصمتَ بعدها نطق بكلام وبصوتٍ ليس خشناً :هؤلاء محتلون مرتزقة بعدها صار يغط بصمتٍ فاردفتُ عليه:إي أبو علاوي وبعد هاي مدرعات المارينز تفوج بگلب مدينتنا شنو العمل؟! فردَّ عليَّ:شوف جبّار هاي الگاع ماتموت خليها تنداس بالدبابات بأي شي هاي اعمارنا تنگظي بالضيم والقهر وهي شاهدة على ذبول حياتنا ووهن قدراتنا بس هي مكان ماله ذنب بما نقترفه من آثام على سطحه وبين أحضانه
هو مكاننا يا جبّار وعزيز علينا ليش البارحه ماسمعت بالأخبار (فريق الزبير لكرة القدم لعب مع فريق القوات البريطانية في البصرة وفاز فيها فريق الزبير بنتيجة إثنين واحد على البريطانيين) تخيلوا يقول هذا الكلام بكل صدق الواثق المطمئن ومن دون مراآتٍ أو تزلفٍ
ذلك هو الوصف الأثير الذي يمكن أنْ يليقَ بما تتصفُ به شخصيةُ (الخفاجي) العاشقُ الأبديُّ لفن الكتابة ومآثر السرد الكبيرة بوصفه كائناً ملاذُه واحاتُ السردِ وغُصْنُها المدللُ(فن القصة)
في يوم الأحد 27-9-2014 يموت الخفاجي ويُرَحَّلُ إلى عالمٍ ليس فيه مايتناغمُ مع مزاجِه الضارب في أقصى درجاتِ الوضوح المغمسة بسلوك عبثي خالص فضلاً عن التقاطع الحاد بين ممكنات إيمانه بفن السرد إذ يترسخُ بين وجدانه ودواخله يلوِّحُ به عالياً وبين ممكنات ذلك العالم المُرْوى له بخيوط الخوف والظلام فكان يُصَرِّحُ وبصوتٍ واضحٍ وأمام الكل عن إمتعاضه من كل اللحظات التي تُعجلُ من إقتراب تلك الخيوط نحو مملكته الاثيرة(عالم السرد الكبير)
وعلى الرغم من إحساسه المر وهو يشهدُ على إختزال تلك المسافة التي تفصله عن هودج الموت الطاعن في خرسٍ عميق فيظلُ مشدوداً إليه يتملى خطواتِه حتى لحظة الإلتقاء الاخير ولهذا كان يقول دائماً: أنا لاأحبُ الموتَ ولا أُحبُّ أنْ أرى صديقاً لي وهو في حضرةِ الإحتظار فكنتُ في عزوفٍ تامٍ عن حضور مجالس العزاء التي تُقامُ في مدينتنا حتى لو كانتِ المسافةُ بيني وبين تلك المجالسِ بضعةُ امتار
وربما تُصيبُ الدهشةُ مَنْ يقرأ أو يطلعُ على سيرة(الخفاجي) حين تصادفه حالات العبث التي تتحكم بسلوكه ليتضح أمام ذلك القارئ صفاتُ ذلك العبث بصفائها وتفردها وترفعها عن كل حالات التبني الهجين أو المزيف
ذلك كان ديدنه ومع مجمل ما نضحتْ به قدراتُه الكتابية لتتمفصلَ مابين القصة والرواية وكتابة القصيدة النثرية فتسيحُ أمام قارئ سيرته عنونات متعددة ومنذ اول قصة له ينشرها في العام1968 في مجلة الآداب البيروتية بعنوان (المظاهرة) وعمره لم يتجاوز الثامنة عشر عاماً صعوداً إلى كتابه القصصي (ثياب حداد بلون الورد) في أَواخر العام 1978 وفيه طرح نفسه قاصاً متمرساً يأتي بما هو مضاف ومثمر إلى رصيد كتابة القصة في العراق
في حين نشهد له بعد العام1980 تحولا نحو كتابة الرواية فينتج روايات أغلبها راح يتماهى والواقع في العراق الذي تلون بآثار الحرب العراقية الإيرانية فكان من نتاج ما كتبه روايات(وشم الدم على حجارة الجبل، العودة الى مدينة الحناء، يوم حرق العنقاء
وبالتواصل مع مرحلة التسعينياتِ فصرنا نشهد له إلتماعاتٍ مائزةً على صعيد كتابة القصة القصيرة وقد تكللتْ بخروج مجموعته القصصية (إيماءاتٌ ضائعة) والتي تُعَدُ خلاصاتٍ مثمرةً لما وصلَ إليه مشروعه في كتابة القصة فكانت هذه (الإيماءات) بوابةً نطل من خلالها على الجهد المثابر والمخلص عند (الخفاجي) حين يجاهرُ بكل مهاراته وقدرته في إنتاج نصوص قصصية تتسم بالتفرد على صعيد اللغة القصصية وإستمالة الموضوعات ذات الطرح الجديد في ثوبها وايضا في مهارة الإسلوب المتبع المعتمد على رشاقة الجملة القصصية وايضا في تبني التركيز على إستعارة النص المفتوح الجامع الذي يكاد يتناسلُ مابين متون النصوص التي ضمتها هذه المجموعة فلم نجد عتبة العنوان الكبرى (إيماءات ضائعة) راكزةً تدلي إلى أحد النصوص بل هي تتجسرُ
عبر خيوط سرية يشعر بوجودها القارئ الحاذق فلاتكاد قصة من هذه المجموعة ينفرط عقد تواصلها مع عتبة العنوان الكبيرة الجامعة فنصوص مثل (الدمية، الأغنية الطويلة المملة، وادي الدموع، قناع بوريشيا، وغيرها مع بقية النصوص) كلها تشي بذاك الرابط الذي تتواشج به وحوله دواخل(الخفاجي) فضلا عن بنية العطش التي تكاد تكنف روحه وهو عطش تلتاع به تلك الروح اللاعجة نحو الإنتماء الإنساني لذلك الضوء المتناهي في بعده وتنامي حضوره في قلب ووجدان (الخفاجي)
ورغم الحالة الكابوسية التي حلت به من جراء سجنه لدى القوات الأمريكية في سجن (بوكا) جنوب العراق بعد العام 2003 نجده يكتب بحيوية الثائر والعاشق لفعل الكتابة ومن داخل السجن روايةً بعنوان ( الحبُّ الأسود) ولانعرف أين صار مصير هذه الرواية التي إختفت بعد وفاته إذ لم تكن مطبوعة ومكتوبة بخط (الخفاجي) الجميل والرشيق
وايضا كتبَ مجموعةَ قصائدَ نثريةٍ متفردة في تجربة كتابتها بعنوان – دموع ذهبية- وفي هذه القصائد ثمة ما يجعل لها من التميز ذلك انها تعبير عن تجربة إنسانية حية بعاطفةِ لاهبة ومشاعر إنسانية عالية فكثير من هذه النصوص تمتلك مايجعلها لأنْ تبقى في الذاكرة ولعلَّ نصَ ( عصفور على السلك) شاهدٌ على حركيةِ المشاعرِ والحوافزِ الداخليةِ التي كانت تعتملُ في روحِ (الخفاجي) أثناء كتابة هذا النص
تبقى آثار الخفاجي وماتركه لنا مدارَ بحثٍ وقراءةٍ مستمرةٍ فرغم بعض القراءات النقدية التي تصدت لهذه الآثار من قبل النقاد والكتاب منهم(باسم عبدالحميد حمودي، عبدالله إبراهيم، داود سلمان الشويلي، جبرا براهيم جبرا، عبدالهادي والي، نعيم عبدمهلهل، أحمد الباقري، جابر حسين العطواني، وغيرهم) إلا أنها بحاجة الى توجهات نقدية باحثة تنهض بها النقدية العراقية فتجربةُ (الخفاجي) تكاد تنمازُ بقدرةِ إبداعِها وإختلافِ نمطِ ماتلتقطُ من موضوعاتٍ تمتلكُ من الثراءِ وجدةِ التناولِ المثابرِ في الكتابةِ والتصَيُّرِ المثمر….