منبر العراق الحر :
لم يتوقع أكثر الداعين للتطبيع أو الحلول السلمية مع إسرائيل، ولا حتى المطالبين بالجهاد والمتمسكين به ضدها، ما حصل من هجوم مفاجئ لمقاتلي حركة حماس، على بلدات ومستوطنات الكيان الإسرائيلي المحاذية لقطاع غزة، وما رافقها من قتل وأسر أرقام تعد كبيرة، ورهائن أجانب وإسرائيليين، قياسا بما كان يحصل في معارك كبيرة سابقة..
يمثل هذا الهجوم فشلا ذريعا وفاضحا، لكل أجهزة الإستخبارات الأمريكية والغربية، وبالتأكيد الإسرائليية منها قبلها.. خصوصا وأننا نعرف أن التحضير لتلك العملية، يحتاج لمدة لا تقل عن (12-)18 شهرا، وكذلك تطلب إختراقا لمواقع وشبكات، وعقد إتصالات وتجميعا لصور ومعلومات سرية وعسكرية..
ساذج أيضا من يظن أن هذا التحضير، لم يتطلب مشورة خارجية “متمكنة” ساندت ودعمت وربما دربت وشاركت في التخطيط، وأعداء إسرائيل كثيرون.. ولن تجد تلك الفصائل صعوبة في الحصول على دعمهم، وكلنا يعرفهم بمواقفهم المعلنة التي تطالب بإزالة الكيان المحتل جهارا نهار..
الغرب المصدوم من جرأة العملية، وخيبة وفشل أجهزته المخابراتية، سارع بشكل غاضب لتقديم الدعم بكل أشكاله للكيان المحتل، بل ويكاد أن يفقد توازنه السياسي، فقدم مواقف وتصريحات متشنجة منفعلة، فضحت إزدواجية معاييره التي كان يسوقها “مصطنعا صورة” تبين أنها وهمية، عن حقوق الإنسان والسلام والعدالة الإجتماعية.. وغيرها كثير من القضايا التي تبين أنها، مجرد أوهام وأدوات يستخدمها ضدنا نحن العرب، وضد كل من لا يتماشى مع مخططاته..
أمريكا والغرب وتحت وطأة الصدمة، أضطرت لإتخاذ مواقف سياسية مندفعة لدعم الكيان الإسرائيلي، لا حبا بهذا الكيان أو خوفا من تأثيرات لوبياته ذات النفوذ إنتخابيا فحسب.. بل ورعبا من خروج المزيد من الدول والمجتمعات، من تحت سطوته وهيبته وجبروته “والتي بنيت خلال سنوات وسلسلة من حروب وتدخلات، وضغوط وحصار إقتصادي وغزوات فكرية وأدبية وحتى سينمائية.. وهذا ما لا يمكنها من تحمله، فهو سيعني سقوط “الردع العالمي الوهمي” الذي تمتلكه وتستخدمه كثيرا، وأيضا نهايتها كدولة كبرى سيدة للعالم كما كانت عليه ..
عسكريا الدعم الأمريكي والغربي واضح وصريح، بل ولم يتردد للحظة في دعم المذابح والإبادة الجماعية، التي تنفذها ألة القتل الإسرائيلية، بأسلحة ومعدات أمريكية وغربية بالكامل تقريبا، بل وتطالب بإبادة تلك الفصائل الفلسطينية، ودون أن تطالب بداية ولو بحماية المدنيين، في موقف فضح إزدواجية معايير الغرب الكاذبة.. لكن الخسارة الأكبر بالنسبة لهم، كانت في فقدانهم لدور الوسيط الموثوق “المزعوم” في حل القضية الفلسطينية، ورعاية إتفاقيات السلام والتطبيع..
هذه الحرب والمواقف الأمريكية والغربية خلالها، سببت خسارة كبيرة لحلفائها الإستراتيجيين في المنطقة، ممن سبق أن وقعوا إتفاقات تطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وجعلتهم تحت ضغوط جماهيرية وسياسية هائلة.. وكانت خسارتهم الأكبر في هذا الجانب، توقف المفاوضات السرية التي كانت تجري، لضم السعودية للدول التي “يمكن” أن تطبع مع الكيان، وهي خطوة لو كانت قد تحققت، لكانت نصرا كبيرا لا للكيان فحسب، بل ولأمريكا وسياساتها وتوجهاتها، وهزيمة كبرى للمحور الشرقي “روسيا والصين وإيران” ممن نجحوا في جر السعودية سابقا، لمواقف أكثر تحررا من الضغوط والهيمنة الأمريكية..
على أرض الواقع أمريكا تعرف أن جيش إسرائيل، ليس مستعدا لعملية برية كبيرة في غزة، ولا يمتلك أهدافا حقيقية قابلة للتحقيق، ومن جانب أخر لا تريد إيقاف إطلاق النار في الوقت الحالي، فهي والكيان وكل الغرب، يريد الرد على هجوم الفصائل الفلسطينية، بطريقة تمكنه من إسترداد شيء من “كرامته الممزقة” وبريق صورة ” الواحة الأمنة الديمقراطية”.. لكن كل ذلك غير ممكن ولا متاح بظروف الصراع الحالية، فصار عاجزا عن تقديم توصية لجيش إسرائيل، والعاجز هو الأخر عن فعل أي شيء، إلا إعتقال أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، تحضيرا لمبادلتهم بأسراه لاحقا، والإمعان في زيادة وتيرة القصف اليومي الوحشي، على بيوت مدنيين لزيادة عدد القتلى عسى أن يدفع الفلسطينيين، للإقتناع بأن سبب موتهم هجوم حماس عليها، وليس الإبادة والظلم والطغيان والتهجير والإحتلال المستمر منذ ثمانين سنة!
تخشى أمريكا كذلك أن يتوسع الصراع، ويفتح جبهات جديدة على إسرائيل، وعلى قواتها المنتشرة في الشرق الأوسط، وربما أبعد من ذلك وأوسع.. وخصوصا في جبهة لبنان وما تملكه المقاومة الإسلامية هناك، من خبرات وقدرات وأسلحة، يمكن أن تسبب أذى حقيقيا لإسرائيل ولقواتها وقواعدها في المنطقة، ناهيك عن إمكانية تدخل ” إيران” والفصائل المتحالفة معها، ولو بطريقة غير أو شبه مباشرة في ذلك الصراع، وعندها ستدخل نفقا لن يعرف أحد كيف ستخرج منه، وبأي ثمن!
ونحن ندخل الأسبوع الثالث من الحرب، لازالت إسرائيل تنزف خسائرا بشكل يومي، فحتى الموقف الغربي بدأ في التململ ولو بشكل بطيء وبإستحياء، وصار يطالب بمراعاة القوانين الدولية وحماية المدنيين الأن، رغم زيارات الدعم التي يقوم بها الرؤساء تباعا.. لكن خسارة الكيان الأكبر تتمثل في التمزق والإضطراب والإنقسام الداخلي، الذي كان أكثر ميزاته قوة في مواقف سابقة من الصراعات، ناهيك عن مئات القتلى وعشرات المفقودين والأسرى.. مما ينذر وربما يؤكد الموت السياسي، لكل من يتولى السلطة في إسرائيل حاليا..
فلسطينيا ورغم الثمن الفادح الذي يدفع، من الدماء والأرواح البريئة، والتدمير الوحشي الهمجي، للبنى التحتية والخدمات وحتى المساكن والبنايات العامة والمدنية، لكنه أعاد القضية للواجهة، بعد طول إندثار ونسيان.. وأعاد للعالم صور القتل والتشريد التي عانى منها الفلسطينيون لعشرات السنين، وذكر العالم كله والمسلمون والعرب خصوصا بما يجري هناك، وأوقف مسيرة التطبيع وكاد أن يعيدها للوراء، وأحرج السلطة الفلسطينية الخانعة وأظهر واقعها الحقيقي، حيث سكوتها وتماهيها طلبا للبقاء في السلطة.. وأكثر إنجاز تحقق هو الوحدة الجماهيرية، بمختلف توجهاتها المذهبية والقومية، خلف المطالبة بحقوق الشعب الفلسطيني، رغم خلافات عقائدية وفكرية مع الفصائل المتواجدة في غزة
رغم أن السياسة وأفانينها وألاعيبها، قادرة على قلب كل الأمور، فتجعل الحق باطلا والعكس بالعكس، لكن المؤكد والثابت، أن القضية الفلسطينية بعد هذه الحرب، لن تعود كما كانت قبلها.. وأن الشرق الأوسط كله، ربما سيعاد رسم إصطفافاته وخارطته السياسية من جديد.. والشاطر من يجمع نقاطا أكثر في تلك اللعبة..